ثمّة قناعة في دمشق تعبّر عنها أوساط سياسية موالية، مفادها أنّ الردّ الإيراني غير المسبوق على استهداف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية، قد نجح عمليّاً في إرساء معادلة ردع قويّة لن تتجرّأ تل أبيب على تجاوزها، إلّا إذا كانت قد اتخذت قراراً نهائياً بإشعال المنطقة. وليست هذه القناعة وحدها ما دفعت السلطات السورية إلى التعامل ببرود مع ما تسرّب من تهديد إسرائيل باختيار الأراضي السورية لتكون مسرحاً لردّها المرتقب على الردّ الإيراني، إذ انهمكت دمشق على أعلى مستوى في الإعداد لاستكمال الانتخابات الحزبية لاختيار قيادة مركزية جديدة لحزب البعث الحاكم، كما احتفلت بعيد الجلاء الذي صادف يوم الأربعاء في ذكرى رحيل القوات الفرنسية عام 1946 بعد احتلال دام ما يناهز 25 عاماً، بينما تتمركز حالياً فوق الأراضي السورية قوات تابعة لأربعة جيوش هي الأميركية والروسية والتركية والإيرانية.
البرود السوري مرّده الحقيقي إلى سببين، الأول أنّ دمشق تدرك جيداً أنّ أي ردّ إسرائيلي سيكون ضدّ المواقع الإيرانية وليس ضدّ مواقع الجيش السوري. الثاني، انّ استهداف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع الشهر الجاري أشعر بشكل مباشر أو غير مباشر بأنّ بنك الأهداف في سوريا لدى إسرائيل قد وصل إلى ذروته، إن لم يكن قد استنفد بالكامل، فماذا يمكن لإسرائيل أن تضرب بعد ذلك، هل ستضرب مبنى السفارة الإيرانية أم هل ستضرب موقعاً سيادياً سورياً ذا طابع سياسي؟
بناءً على هذه المقاربة تتوقع الأوساط السياسية في سوريا أن تكون أي ضربة إسرائيلية مقبلة أدنى في تأثيرها ورمزيتها من استهداف مبنى القنصلية، وبالتالي فإنّه لن يكون من الحكمة إعطاء أهمية مبالغاً بها للردّ الإسرائيلي الذي سيجري تصويره، مهما بلغت شدّته، على أنّه عودة إلى قواعد الاشتباك التي كانت سائدة قبل استهداف القنصلية.
ووصفت شبكة "إن بي سي نيوز" الأميركية الردّ الإسرائيلي المحتمل على الهجوم الإيراني بأنّه سيكون "محدود النطاق"، وقد يذهب باتجاه استهداف قوات إيران ووكلائها في سوريا. هذا التقييم وإن كان يستند إلى محادثات بين مسؤولين إسرائيليين وأميركيين جرت قبل الردّ الإيراني، إلّا أنّه يتطابق مع التوقعات السورية السابقة.
غير أنّ الحسابات الإيرانية في سوريا تختلف عن حسابات السلطات السورية، لأنّ طهران التي تمتلك عشرات الميليشيات التابعة لها في سوريا، ولديها قواعد عسكرية ومواقع ومستودعات أسلحة، بالإضافة إلى مصالح واسعة وشبكة نفوذ منتشرة في معظم المناطق، أصبحت لها حساسية خاصة من وقوع خسائر بشرية في صفوفها نتيجة أي عدوان إسرائيلي، وبخاصة بعد خسارتها الطاقم القيادي الذي كان يجتمع في مبنى القنصلية في دمشق وعلى رأسه الجنرال محمد رضا زاهدي.
وبما أنّ الردّ الإيراني على إسرائيل اقتصر، سواءً كان ذلك مقصوداً أم غير مقصود، على إحداث أضرار مادية طفيفة في محيط قاعدتين عسكريتين من دون أن يتسبب بسقوط قتلى في الجانب الإسرائيلي، فإنّ إرساء معالم معادلة الردع الجديدة سيبقى متوقفاً على طبيعة الردّ الإسرائيلي وما ينتج منه من خسائر. ففي حال فاق الردّ الإسرائيلي توقعات المتفائلين بأن يكون "محدود النطاق" وأدّى إلى وقوع خسائر بشرية في صفوف القيادات الإيرانية، سيكون من شأن ذلك أن يدفع طهران إلى الدخول مضطرة في سلسلة غير متناهية من الردّ والردّ المقابل، ما سيهدّد باندلاع حرب إقليمية لا يرغب أي طرف في خوضها في هذا التوقيت، إلّا إذا كانت حسابات بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، الداخلية تدفعه نحو سلوك هذا المسار الخطر.
ويشير أداء الميليشيات الإيرانية في سوريا إلى ترجيح أن يركّز الردّ الإسرائيلي المحتمل على استهداف المواقع والقواعد والقيادات المتموضعة في منطقة شرق الفرات وبالتحديد بالقرب من الحدود السورية- العراقية، وهو ما يدل إليه رفع هذه الميليشيات من مستوى استنفارها وتأهبها ومحاولتها القيام بعمليات تمويه وإخلاء للعديد من مواقعها في المنطقة.
ونفت مصادر مقرّبة من ميليشيا "النجباء" العراقية العاملة في سوريا لـ "النهار العربي" أن تكون إيران أوعزت إلى مستشاريها العسكريين بضرورة مغادرة الأراضي السورية خشية استهدافها، مشيرة إلى أنّ مثل هذه المعلومات لو كانت صحيحة لكان يفترض أن تكون سوريا خالية من الإيرانيين منذ سنوات، في إشارة إلى التقارير الإعلامية التي تتحدث باستمرار عن إخلاء إيران قادتها من سوريا بعد كل استهداف يطال أحد هؤلاء القادة.
غير أنّ المصادر أشارت إلى اتخاذ القادة والمستشارين الإيرانيين احتياطات أمنية مشدّدة حرصاً على حياتهم وكي لا يتعرّضوا لأي إصابة، وتشمل هذه الاحتياطات العودة إلى الحياة المدنية موقتاً وعدم الاقتراب من المواقع العسكرية.
وكان مسؤولون سوريون ومستشارون إيرانيون قد اشاروا لوكالة "فرانس برس" عن بدء طهران إجلاء ضباطها ومستشاريها من مواقع عدة في سوريا، وأوضحوا أنّ الحرس الثوري و"حزب الله" قلّصا وجود كبار ضباطهما في الداخل السوري.
وفي هذا السياق، أخلت الميليشيات الإيرانية عدداً من مواقعها في مدينة البوكمال شرق ديرالزور الحدودية مع العراق، ومن ضمنها مواقع الفوج 47 وفوج نينوى، وفق شبكة "عين الفرات" المحلية. وأضافت الشبكة أنّ الميليشيات الإيرانية استولت قبل أيام على عدد من المنازل في محيط منطقة الكهرباء ومحيط جامع الإيمان في البوكمال، بهدف تحويلها إلى مقار جديدة لها.
في المقابل عاد ما يُسمّى "مكتب الأصدقاء" التابع لميليشيا "حزب الله"، إلى ممارسة أنشطته بعد توقفه قبل فترة في البوكمال.
وكشفت مصادر خاصة لشبكة "عين الفرات" أنّ المكتب أوقف عمله خلال الفترة الماضية، واقتصر على بضعة عناصر للحراسة.
وأوضحت أنّ المكتب أعاد منذ يومين تفعيل مهماته، تحت قيادة القيادي المدعو "الحاج أبو يوسف" وهو لبناني الجنسية.
ويُعتبر المكتب المسؤول الأول عن عمليات تطويع الشبان في المنطقة، ويقع إلى جانب مقر "جيش العشائر" التابع للميليشيات.
وتحدثت مصادر سورية معارضة عن دخول عشرات المسلحين من العراق إلى البوكمال، حيث تخطط قيادة الحرس الثوري الإيراني لإجراء دورات تدريبية عاجلة في مدينتي البوكمال والميادين.
ويبدو أنّ احتمال أن يركّز الردّ الإسرائيلي على المواقع الإيرانية في شرق الفرات لا يثير خشية إيران وحدها، بل كذلك أثار قلقاً لدى الولايات المتحدة التي من المتوقع أن تؤدي أي ضربة إسرائيلية إلى إنهاء الاتفاق السرّي الذي توصلت إليه مع طهران لوقف الاستهداف المتبادل بينهما، والذي تصاعد في أعقاب الهجوم المنسوب إلى إيران على قاعدة البرج 22 في الأردن واسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين.
وعليه استقدمت قوات التحالف الدولي في شرق سوريا تعزيزات جديدة تشمل أنظمة دفاع جوي متطورة.
وذكر "المرصد السوري لحقوق الإنسان" أنّ طائرة شحن عسكرية تابعة للقوات الأميركية هبطت الأربعاء، في قاعدة حقل العمر النفطي، أكبر قواعد التحالف في ريف دير الزور، تحمل على متنها أنظمة دفاع جوي متطورة، وسط انتشار دوريات مكثفة ومشتركة لقوات التحالف الدولي و"قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) في محيط القاعدة.
ولفت المرصد إلى استقدام قوات التحالف الدولي، في وقت سابق قافلة من التعزيزات العسكرية مكونة من 40 شاحنة محمّلة بصناديق مغلقة تحمل بداخلها أسلحة ومعدات لوجستية، وصلت منها 15 شاحنة إلى قاعدة تل بيدر في ريف الحسكة، قادمة من إقليم كردستان العراق عبر معبر الوليد الحدودي.
وتستمر قوات التحالف باستقدام التعزيزات العسكرية لقواعدها في سوريا براً وجواً، وذلك في إطار تحصين قواعدها ضدّ هجمات محتملة من قبل الميليشيات الإيرانية.