النهار

المحامي صار حلاقاً والمهندس بائعاً... سوريا على أعتاب فوضى جديدة
دمشق-طارق علي
المصدر: النهار العربي
سجّلت سوريا خلال حربها الممتدة منذ عام 2011 أعلى نسبة بطالة معروفةٍ أحاطت بدولة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
المحامي صار حلاقاً والمهندس بائعاً... سوريا على أعتاب فوضى جديدة
سوريون يجلسون على جسر فوق نهر بردى وسط العاصمة دمشق
A+   A-

سجّلت سوريا خلال حربها الممتدة منذ عام 2011 أعلى نسبة بطالة معروفة أحاطت بدولة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حيث وصلت تلك النسبة في ذروتها إلى 50 بالمئة بعد مضي الأعوام الخمسة الأولى من الحرب.

 

نسبة البطالة أصابت سوريا بالشلل، فتوقفت فيه عجلة الإنتاج الميداني والإبداعي والفكري؛ وكل ما من شأنه استقطاب العقول الشابة والمتخرّجين الأكاديميين ليكونوا عماد التفوق الصناعي والتجاري والفكري والمجتمعي.

 

الوظيفة المكروهة

ما زاد من واقع البطالة سوءاً هو أنّ الوظائف الحكومية التي كانت خلال عقود ملجأ للهاربين من الفقر وللباحثين عن استقرار مادي ومعنوي مستديم في ظلّ رواتب بلغت مئات الدولارات عشيّة اندلاع الحرب، فكانت تلك الوظائف مقصد كلّ متخرّج جامعي، بل حلماً يتسابق إليه الجميع.

 

الحرب التي قضت على العملة المحلية جعلت رواتب الموظفين الشهرية تعادل عشرين دولاراً، وقد تزيد بقليل أحياناً، ما جعل من استمرار المعيشة في ظلّ شحّ الراتب ذاك مستحيلاً، فصار الموظفون يسعون للاستقالة بأيّ طريقة متجهين نحو الأعمال الحرّة التي - بأسوأ حالاتها - ستؤمن لهم دخلاً أفضل.

 

بعد عام 2018، ومع انتهاء كبرى معارك المدن الرئيسية واستعادتها من قبل الحكومة السورية وتبلور شكل الصراع الميداني على الأرض واتضاح توزع خريطة القوى على الأرض، تراجعت نسبة البطالة بحسب مراكز الدراسات إلى حدود 20 بالمئة أو أكثر بقليل، وربما يكون الرقم غير دقيق تماماً، ولكن يجب النظر في الوقت ذاته أنّ تتالي السنين كان يحمل معه عاماً تلوَ الآخر هجرات لم تتوقف للشباب السوري، فالطاقة المتاحة للعمل في 2015 لا شك تعادل أضعاف الطاقة المتاحة حالياً، ولسوريا اليوم 7 ملايين مهاجر مشتت بين دول العالم القريب والبعيد.

 

الجامعات لم تتوقف خلال الحرب

رغم ضراوة الحرب وفي أشدّ سنيّها قسوة، لم تتوقف على الأقل جامعات دمشق وحمص وحلب وحماه عن تخريج عشرات آلاف الطلاب سنوياً وبانتظام وفي كل الاختصاصات، من خلال عشرات الكليّات العلمية والأدبية، وصولاً إلى المعاهد العليا والوسطى، إضافةً لطلبة الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه.

 

رغم تلك الحركة الجامعيّة النشطة، ولكنها اصطدمت لأسباب تتعلق بالحرب مباشرةً بانحدار ترتيب الجامعات السورية دولياً، فبحسب موقع "ad scientific index" الذي يعتمد على الإنتاجية العلمية والتحليلية في التقييم، فقد وضعت جامعة دمشق في المرتبة 7686 عالمياً، فيما أعطى موقع "ويبوماتريكس"، وهو مركز دراسات دولي آخر، جامعة دمشق ترتيباً عالمياً يحمل الرقم 3458.

 

وكلا الرقمين يرتبطان بعامي 2023 و2024، ويصعب تحديد الأدق بينهما لاختلاف معايير التقييم العالمية التي تستند أحياناً إلى المساهمات الفردية لطلاب الجامعات في الأبحاث، واستناد بعضها الآخر إلى جودة العملية التعليمية وكفاءة الكوادر التدريسية، فيما تنظر مراكز أبحاث أخرى للموضوع من ناحية جدارة منح الشهادات بعيداً عن شبهات الفساد التي تغرق فيها البلدان خلال الحروب.

 

"ما عادت تطعم خبزاً"

تخريج الجامعات السورية لمئات آلاف الطلبة خلال سني الحرب وضع البلد في مأزق واضح، فمن أين ستتمكن سوريا التي تنهشها الحرب من تأمين فرص عمل لهذا العدد المهول من الكفاءات الأكاديمية في ظلّ انعدام سوق التشغيل؟

 

انعدام ذاك السوق كان الدافع الأول لاستمرار الهجرة المرتبطة بأكثرها بالعنصر الشبابي حتى اليوم، وتحديداً نحو الدول التي تقدم فرص عمل للسوريين كالخليج والعراق، فيما فضل متخرّجون آخرون البقاء في الداخل السوري لسبب أو لآخر.

 

ولكنّ السواد الأعظم منهم كما هو معروف لم يختر الالتحاق بالوظيفة الحكومية إذا كان متخرّجاً من كليّة تلتزم الدولة بتوظيف طلابها كالتربية وبعض الهندسات، وغيرهم لم يسعَ للالتحاق بالوظائف عينها عبر مسابقات التوظيف أو الوساطات، لأنّ تلك الوظيفة على ما يقولون: "لا تطعم خبزاً".

 

"لماذا سأتوظف؟"

كل تلك العوامل والتغيّرات والتبدلات في المشهد السوري سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أجبرت معظم المتخرّجين على العمل في غير اختصاصهم الدراسي مرغمين، شاقين طريقاً جديداً لحياتهم في أعمالٍ ومصالح تؤمن لهم ما لا يجعلهم مرفهين، ولكنّه على الأقل يجعلهم قادرين على الاستمرار في مقارعة مرارة الواقع المحيط بهم.

 

رؤيا الشامي شابةٌ تخرجت قبل سنوات من إحدى الكليات الهندسية التي تلتزم الحكومة بتوظيف متخرّجيها، ولكنّها رفضت تلك الوظيفة إطلاقاً. وتقول رؤيا خلال حديثها مع "النهار العربي": "بالطبع كان يجب أن أرفض الوظيفة الحكومية، وبالتأكيد لست نادمة، لماذا سأتوظف؟ ليكون دوامي ثماني ساعات كل يوم وبإجازات قليلة جداً؟ لا أعرف بالضبط، ولكن ربما الموظف يحصل على 16 يوم إجازة فقط في السنة، ومن ثم أتقاضى 20 دولاراً أضعها ثمناً للمواصلات وأقضي بقية شهري أستدين لآكل وأشرب".

 

ابنتنا مهندسة

رؤيا اختارت العمل في شركة لتحويل الأموال داخلياً بين المحافظات، بدقة لم تختر المهندسة ذلك العمل، بل هو الوحيد الذي تمكنت من الظفر به خلال عام من البحث عن عمل بعد تخرجها، إذ إن السوق السوريّ المغلق على نفسه لا يتيح رفاهية اختيار العمل والتخصص ووضع الشهادة الجامعية المناسبة في المكان المناسب.

 

فمثلاً حين يكون الحديث عن آلاف المتخرّجين من مهندسي العمارة، فكيف سيتم خلق سوق عمل لهم ما دامت حركة إعادة الإعمار متوقفةً تماماً؟ فتصبح حلولهم فردية ويقتصر إنتاجهم المهني على بناءات وإنشاءات معمارية صغرى.

 

تتقاضى رؤيا في عملها هذا نحو 40 دولاراً شهرياً، لا ترى أنّه رقم جيّد، ولكنّها تؤكد أنّه أفضل الموجود، قائلةً: "لو تركت وظيفتي اليوم فلن أعثر على أخرى بتلك البساطة. المعادلة غريبة جداً، لقد درست لخمس سنوات لأجلس في النهاية خلف شاشة حاسوب وأقطع إيصالات للزبائن طيلة النهار. ولكن لا بأس، فأهلي ما زالوا فخورين ويقولون ابنتنا مهندسة".

 

المهندس البائع

من مهندس ميكانيكا إلى صاحب متجر صغير لبيع الأجهزة المحمولة، باختصار هذا طريق التحول في حياة المهندس عمران ميداني الذي لم يجد ما يعمل به ضمن اختصاصه بعد تخرجه، فاتجه لتعلم مهنة الأجهزة المحمولة، مفتتحاً متجراً صغيراً في مدينة جرمانا بريف دمشق.

 

وعن ذلك التحول في حياة عمران يقول: "اليوم كل المتخرّجين سواسية، جميعنا علينا أن نشق طريقنا بعيداً عن شهاداتنا لنتمكن من العيش وجني المال، وأعتقد أنّ هذا سلوك جمعي وصار مكرّساً مع الوقت".

 

ويضيف: "لم يكن هذا التحول سهلاً في حياتي، أن تكون مهندساً ثمّ تصير بائعاً تتعامل مع زبائن قد يوبخونك لأشياء تافهة وهم لم يدخلوا مدرسةً بحياتهم، ولكن عليك أن تخلع عنك زي التخرج وتبتسم لأنّك في مصلحة كمثل تجارة الموبايل وإكسسواره ستجني شهرياً ما لا يقل عن مئة دولار".

 

قانون العقوبات: رأس أم لحية؟

قد تبدو أغرب حالة التقاها "النهار العربي" هي الشاب زيدان فتّال، وهو متخرّج كليّة الحقوق الذي سعى طويلاً وانتظر أكثر عسى أن يتمكن من ممارسة مهنته والحصول على قضايا قانونية، ولكنه صدم بواقع سوق مهني مزدحم لم يتمكن من مواجهته والتفوق عليه أو الانخراط به على الأقل، فلجأ إلى أغرب عملٍ ممكن أن يمارسه محامٍ.

 

يعمل زيدان اليوم حلّاقاً في صالون للرجال، يتقاضى على الحلاقة الواحدة دولارين، معتبراً أنّ ذلك أمرٌ ممتاز لأنّ مهنته ليس فيها هدر مالي، وبالتالي فإنّ الأرباح تكون في نسبتها النهائية أعلى من مصالح كثيرة.

 

يقول زيدان لـ"النهار العربي": "أنا من أسرة فقيرة، حين كنت يافعاً تعلمت الحلاقة وكنت أعمل بالأجرة لدى حلاق لأعين أسرتي، وظللت أعمل خلال دراستي الجامعية لأؤمن مصروفي، وبعد تخرجي فجأة عرفت أن بلدنا العظيم فيها أكثر من 40 ألف محامٍ، وأنا أضمن سلفاً أنّ من يعمل بينهم ليسوا أكثر من ألف. هذه الكثافة لا تسمح للمتخرّجين الجدد بالعمل وتولي قضايا، خاصةً أنّ هذا العمل يعتمد بالدرجة الأولى على العلاقات والمعارف، وأنا لا أمتلك الاثنين لأسباب كثيرة".

 

يسخر زيدان من حاله ومن قانون العقوبات الذي يعصف في رأسه ومن اجتهادات محكمة النقض التي تحاصر أفكاره، ومن الأيام التي بدلاً من أن تجعله يقف أمام القضاة مرافعاً ومدافعاً عن حقوق موكليه جعلته يقف خلف الزبون ليسأله: "رأس أم لحية"، ويختتم حديثه قائلاً: "والله لولا احترامي لزملائي في المهنة لكنت علّقت شهادتي الجامعية في صدر محل الحلاقة".

اقرأ في النهار Premium