النهار

أساتذة يُحسنون تلقّف "الموسم"... الدّروس الخصوصية تستنزف العائلات السورية المتعبة
دمشق-طارق علي
المصدر: النهار العربي
ما يحصل في ملف التعليم السوري تخطى كونه الاستثناء ليحل مكان القاعدة بجسارة وجرأة وقوة مستنداً إلى جملة عوامل موضعية حوّلت المجتمع الطلابي إلى متكئ على دروس منزلية بعدما أيقن أنّ المدارس تطلعه على المناهج ولا تعلمه إياها كما ينبغي، لاسيما أنّ جميع الطلاب يدخلون فترة الانقطاع الدراسي وهم لم يكملوا مناهجهم في المدارس.
أساتذة يُحسنون تلقّف "الموسم"... الدّروس الخصوصية تستنزف العائلات السورية المتعبة
الدروس الخصوصية عبء لا مفر منه
A+   A-
في مثل هذه الأيام من كل عام تحتدم "بورصة" الدروس الخصوصية في منازل الطلاب السوريين، في رحلة السعي المحموم للحصول على موافقة أساتذة كبار وقتهم يغصّ بالمواعيد المتلاحقة منذ ساعات الصباح الأولى وحتى نهاية اليوم، هي المواعيد التي يُحسن الأساتذة استغلالها في موسمها حمايةً لمواردهم المالية التي تشحّ في مواسم يقلّ فيها الطلب على الدروس الخصوصية، كالمرحلة الصيفية عموماً. 

صراع محموم وأسباب متنوعة
يحتدم الصراع لتأمين أفضل الأساتذة قبل الامتحانات النهائية التي تكون عادةً في شهر حزيران (يونيو)، مقابل مبالغ مالية تدفع عن كل ساعة وتبدو مرهقة للأهالي، ذلك لأنّ الدروس اليومية تلك ترتب مبالغ شهرية هائلة يجب دفعها لا لأستاذ واحد، بل لجملة أساتذة كل منهم يختص بمادة.
 
باتت الدروس الخصوصية ضرورية وشائعة في سوريا منذ سنوات لتدني جودة العملية التعليمية وأسباب كثيرة أخرى تجعل الطالب لا يستفيد من دروس المدرسة، فيكون خياره الوحيد هو اللجوء إلى دروس المنزل. ومن بين تلك الأسباب اكتظاظ الصفوف التعليمية بأربعين إلى خمسين طالباً، ما يجعل إيصال المعلومة إلى الجميع صعباً، يرافق ذلك استسهال الأساتذة (غالبيتهم) لعلمهم المسبق بأنّ هؤلاء الطلاب سيتنافسون للحصول على خدماتهم في المنزل.
 
 

قوانين شكلية
القانون التعليمي ومواثيق وزارة التربية والتعليم تمنع تلك الظاهرة، ويصطلح على تسميتها ظاهرةً رغم أنّها ولدت قبل الحرب بقليل، ولكنّها تنامت حتى عمّت المشهد بعد الحرب التي بدورها لعبت دوراً مؤثراً في ذلك، إذ أحالت العملية التربوية برمّتها إلى دمار حذرت الأمم المتحدة مراراً من تهاويه وعدم التمكن من تداركه.
 
تلك القوانين لا أحد يستجيب لها من الأهالي أو المدرسين، فالظاهرة فرضت نفسها كواقع إلزامي وإجباري لا يمكن الاستغناء عنه، رغم الصعوبة الهائلة في تأمين مصاريفه، وقد يكون مردّ ذلك إلى أنّ السوريين عامةً يحملون في موروثاتهم شيئاً يتعلق بضرورة التعلم والاستحصال على الشهادات ولو كان مصيرها أن تعلق على حائط دونما جدوى، كما أنّها مثار مفاخرة تعني الأهالي أكثر من أولادهم الحالمين بانتهاء الدراسة والسفر نحو دول تحترم ما بذلوه من عناء في رحلة علمهم الطويلة.

معادلة الخاسر والرابح
وفي هذا السياق المركب الذي لا يعرف غنياً أو فقيراً (ضمن الحدود المتاحة)، وتلك الحدود قد تقتضي الاستغناء عن أساسيات منزلية حتى تمرّ عاصفة الدروس الخصوصية، يكون الأهالي أساساً قد شرعوا منذ أشهر وربما قبل عام بأكمله وربما عبر حيل أخرى بجمع الأموال لهذه الأشهر القاسية، فيخرج الأستاذ في نهاية الموسم التعليمي بمبالغ أكثر من كبيرة، وهو اللاهث من منزل إلى آخر من دون هوادة، تاركاً للطالب ما فهمه من حصة الستين دقيقة ولأهله جملة "وفقك الله يا ولدي. فعلنا كل ما باستطاعتنا لتكون الأفضل".
 
حيلة خارج القانون
حاول ناصر، وهو موظف حكومي، جني المال بأيّ طريقة بانتظار موعد الدروس الخصوصية لابنه، والتي قرر أن تكون في شهر آذار (مارس)، ولكنّه فشل في تحصيل أي مبلغ مالي يساعده، كما فشل في الاستدانة، قبل أن يشير عليه أحد زملائه بخطّة وصفها بـ"الجهنمية" وبأنّ الكثير اتبعها ونجحت معه.
 
تلك الخطة عينها هي التي جعلت ناصر يطلب عدم ذكر اسمه الحقيقي لما تحتويه من مخالفة قانونية جسيمة قد يحاسب عليها إذا ما صرح عنها مباشرةً، الخطة كانت الاستفادة من المحاولات السورية الرسمية للتحول إلى الطاقة البديلة في ظلّ عدم توافر الكهرباء بشكل شبه كامل في البلاد، فقدمت الحكومة قروضاً ميسّرةً لتركيب أنظمة طاقة شمسية يبلغ سقفها عموماً نحو 30 مليون ليرة سورية (ألفي دولار)، وهو رقم يكفي لتركيب بضعة ألواح طاقة وبطاريات منزلية ومنظم جهد يتكفل معاً بتأمين الكهرباء للمنزل.
 
 
يقول ناصر لـ"النهار العربي": "حصلت على القرض وأرسل البنك شركةً لتركب لي منظومة الطاقة، إذ إنّه يمنع أن نتقاضى المبلغ على شكل "كاش"، وبعدما ركبت الشركة المنظومة لديّ، قمت ببيعها بعد ثلاثة أيام فقط بحوالي 20 مليون ليرة (1300 دولار)، وهو الرقم الذي جعلني أؤمن الدروس الخصوصية لولدي وأنا مرتاح تماماً، خصوصاً أنّ قيمة تسديد القرض الشهرية متدنية فهي أقل من مئتي ألف ليرة (حوالي 15 دولاراً أو أكثر)، ومئتي ألف ليرة هو بالكاد ثمن درسين خصوصيين أو ثلاثة".

بورصة مفتوحة ولا رقيب
يعاني المهندس رائد زين من تكلفة الدروس الخصوصية المرهقة، والتي يوضح أنّه فوجئ بها تماماً وكيف ارتفعت بين العام الماضي والحالي، قائلاً: "صدق من قال إنّها بورصة، ليتني درست في الجامعة فرعاً يمكنني أن أكون أستاذاً وأجني تلك الملايين، ماذا فعلت بشهادتي الهندسية التي لا تطعم خبزاً، وكيف ما زلنا نصدق من يقول إنّ الهندسة سيّدة الشهادات؟".
 
ويضيف: "يبدأ سعر الساعة الخصوصية من ثلاثين ألفاً ويصل حتى مئة ألف، تبعاً لنوع المادة ومدى أهميّة اسم المدرس، ولو أخذنا في الاعتبار أنّ المرحلة المثلى للدروس هي من آذار إلى فترة الامتحان في حزيران، ولو قلنا إنّ الحدّ الأدنى هو 15 درساً شهرياً، فسيحتاج الطالب نحو 50 درساً حتى بلوغه الامتحان النهائي".
 
ويتابع: "ولنفرض أنّ متوسط الدرس هو 50 ألفاً فقط، فسيتعين على العائلة أن تدفع للأستاذ مليونين ونصف مليون ليرة أو أكثر (250 إلى 300 دولار)، وهذا الرقم أكثر من مهول لأنّه يعادل مرتبي لتسعة أشهر متواصلة، علماً أنني حاولت تقليل الأرقام قدر المستطاع، فثمّة طلاب تحتاج دروساً يومية بضعف الرقم والقيمة اللذين ذكرتهما".
 

خطوة استباقية
طالب الشهادة الثانوية نضال صبح فهم اللعبة باكراً مستفيداً من تجارب آخرين سبقوه، فعلم أنّ تأجيل الاتفاق مع الأساتذة الكبار سيجعل تأمين دروس لديهم أمراً مستحيلاً في وقت لاحق، لذا قام بعقد اتفاقات مع معظم الأساتذة الذين يدرسونه الآن منذ شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
يقول صبح لـ "النهار العربي": "رغم أني أبرمت اتفاقات مبكّرة كان هناك أساتذة  اعتذروا، أدرك لماذا فعلوا ذلك، لأنّ الصراع يحتدم عليهم مطلع شباط فيختارون الدروس التي تدرّ عليهم مالاً أكثر، لذا أدخلت بعض الوساطات بيني وبينهم حتى حظيت بوعودهم في تدريسي، وبالفعل كان لي ما أردت وبدأت معهم منذ نهاية شباط".
 
يدفع صبح على درس اللغة الإنكليزية 40 ألفاً، والفرنسية 30 ألفاً، والعربية 50 ألفاً، والكيمياء 40 ألفاً، والفيزياء 100 ألف، والرياضيات 100 ألف، والعلوم 50 ألفاً، وسطياً يحصل على درسين أسبوعياً أو ثلاثة من كل مادة، ليكون المجموع الأسبوعي لما يدفعه والداه حوالي مليون ليرة (65 دولاراً)، وذلك لأنه اختار أفضل الأساتذة المشهورين، وبالتأكيد هناك أساتذة كثر أسعارهم أقل بنسب جيدة.

من وجهة نظر الأساتذة
يوضح أستاذ الرياضيات غانم إسماعيل في حديث إلى "النهار العربي" أنّه يحاول إمساك العصا من المنتصف بتقديم أسعار مقبولة، إذ يتقاضى 50 ألفاً على الدرس الواحد (3 دولارات)، ويعطي حوالي ثمانية دروس يومياً.
 
يقول: "نحن لا نبيع علوماً زائفة وتريندات وأشياء لا تنفع الطالب، نحن نبني معه مستقبله، ولو يعلم البعض كم نعاني مع طلاب متعددين لبطء استيعابهم كان يعلم أنّنا نتقاضى أجوراً زهيدة، ثمانية دروس في اليوم تتطلب البقاء أكثر من 12 ساعة خارج المنزل بين مواقيت الدروس والتنقل بين مكان وآخر، وهل النقل بحدّ ذاته رخيص؟".
 
ويضيف: "بعض الأساتذة لا يمتلكون سيارات وهذا طبيعي في ظلّ الأرقام الفلكية لأسعار السيارات، فلو أخذ الأستاذ منّا سيارة تكسي بين منزل طالب وآخر فسيدفع ثمن الدرس أجراً لها، لذا كثير منّا يتعمد اختيار منازل طلاب قريبة بعضها من بعض".
 
وبخصوص منع الدروس الخصوصية قانوناً، يجيب: "وهل ثمّة شيء في البلد ينطبق عليه القانون؟ نحن لا نؤذي الطلبة، نحن نعلمهم وندرسهم ونجهزهم لامتحانات مصيرية في حياتهم"، مشيراً إلى أنّه أحياناً يضطر لخفض تسعيرته إذا ما وجد أنّ أحوال الطالب المادية سيئة للغاية، وكذلك – بحسبه - يفعل أساتذةٌ آخرون.

حين يصير الاستثناء قاعدة
ما يحصل في ملف التعليم السوري تخطى كونه الاستثناء ليحل مكان القاعدة بجسارة وجرأة وقوة، مستنداً إلى جملة عوامل موضعية حوّلت المجتمع الطلابي إلى متكئ على دروس منزلية بعدما أيقن أنّ المدارس تطلعه على المناهج ولا تعلمه إياها كما ينبغي، لا سيما أنّ جميع الطلاب يدخلون فترة الانقطاع الدراسي وهم لم يكملوا مناهجهم في المدارس.
ورغم أنّ الأمر صار على حين غفلة قاعدة جماعية، ولكن لا بدّ من الإشارة الى أمرين، أولهما عائلات نهشها الفقر فاستنزفت حلولها غير متمكنة من استحضار أساتذة الى منازلها، وثانيهما طلبة أحجموا بإرادتهم عن ذلك الطريق متجهين نحو جلسات تدريسية جماعية مصغرة تقيمها معاهد تعليمية متعددة بأسعار مخفضة نسبياً عن تلك الخصوصية.
 
 

اقرأ في النهار Premium