مع كل منعطف تصل إليه التطورات الإقليمية الساخنة، يتحول الوجود الإيراني في سوريا إلى مادة للجدال وسط تسريب معلومات ومعلومات مناقضة حول سحب أو عدم سحب طهران مستشاريها وضباطها.
وتمتد جذور هذه الظاهرة إلى سنوات طويلة تكاد تكون من عمر التدخل الإيراني في الأزمة السورية وسعيها إلى بناء منظومة نفوذ فيها على أنقاض ما دمرته الحرب المتواصلة منذ عام 2011.
وقد احتلّ الوجود الإيراني صدارة المشهد في أعقاب استهداف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع شهر نيسان (أبريل)، وما أسفر عنه من مقتل الهرم القيادي للحرس الثوري الإيراني في كلّ من سوريا ولبنان. وذلك أنه هدد بإشعال حرب إقليمية واسعة مع قرار طهران الردّ بمئات الصواريخ والطائرات المسيرة، وما أعقبه من ردّ إسرائيلي شمل ضرب أهداف في كل من سوريا وإيران في وقت متزامن.
ويعتبر تزايد النفوذ الإيراني في سوريا وتوسّعه حتى شمل مختلف المناطق والقطاعات من الملفات ذات الطبيعة المركّبة التي تجهد دمشق في إدارتها بحنكة، وبما يوافق مصالحها، وإن كان ذلك يجري ضمن الحدود الدنيا بسبب فقدان العاصمة السورية بصمتها الخاصة لمصلحة حلفائها الذين توغلوا في مختلف دوائر صنع القرار. فمن جهة، تعتبر طهران من خلال أذرعها العسكرية من أكثر الجهات الداعمة لبقاء النظام السوري، لكنها من جهة أخرى تعتبر بوابة للضغط على السياسة السورية نظراً إلى تخوف العديد من الدول من الدور الإيراني في سوريا، واعتباره يشكل تهديداً لأمن هذه الدول، لا سيما دول الخليج.
لذلك لم يكن، على الأغلب، من قبيل الصدفة أن يصرّح مصدر مقرّب من "حزب الله" لوكالة "فرانس برس" بأن إيران سحبت قواتها من جنوب سوريا، بما في ذلك من محافظتي القنيطرة ودرعا المتاخمتين لمرتفعات الجولان السوري المحتل، مشيراً إلى أنه لا يزال هناك وجود للقوات الإيرانية في أجزاء أخرى من سوريا.
لم يسارع "حزب الله" إلى نفي ما نسبته الوكالة الفرنسية إلى مصدر مقرب منه، رغم أن الخبر حظي بانتشار واسع، وترك انطباعاً لا يتوافق مع ما جرى الترويج له من تحقيق طهران معادلة ردع قوية جراء هجومها الأول من نوعه على إسرائيل. غير أن قناة "الميادين" الدائرة في الفلك الإيراني سارعت إلى نفي صحة الخبر نقلاً عن مصدر مسؤول في محور المقاومة، لم تسمّه. وقال المصدر بحسب القناة إن "الأخبار التي تداولتها وسائل إعلام عالمية ومواقع عربية عن إجلاء إيرانيين من الجنوب السوري وتقليص أعدادهم غير صحيحة".
وقال المسؤول إنه "لا قوات إيرانية في سوريا، بل مستشارون عسكريون موجودون قانونياً وبالاتفاق مع سلطات النظام السوري".
وأكد المسؤول أن "المستشارين العسكريين الإيرانيين يواصلون أداء واجباتهم في سوريا، بموجب اتفاق مع دمشق".
واستغرب مصدر سوري تحدث إلى "النهار العربي" تصريح المصدر المقرب من "حزب الله" لأن من المعروف أن محافظتي درعا والقنيطرة لم تكونا أبداً من بين المناطق التي استقر فيها مستشارون إيرانيون، على عكس محافظات حلب ودير الزور ودمشق. وأشار المصدر إلى أن معظم المستشارين العسكريين الإيرانيين الذين قُتلوا في سوريا استُهدفوا في هذه المحافظات الأخيرة، بينما لم يُسجل مقتل أي مستشار إيراني في درعا أو القنيطرة خلال السنوات الأخيرة. وأوضح أن درعا والقنيطرة شهدتا مقتل قادة من "حزب الله" ولكن ليس مستشارين إيرانيين، لذلك يبدو أن التصريح جاء في سياق إعلامي محض بهدف تهدئة الأجواء التي وصلت إلى مستوى غير مسبوق من التصعيد مع تبادل إسرائيل وإيران الردود. في المقابل، رأى المصدر السوري أن التصريح الذي نقلته قناة "الميادين" موجه بالدرجة الأولى إلى جمهور محور المقاومة للحفاظ على الانطباع الجيد الذي تركه الردّ الإيراني، بما يسمح بمواصلة الترويج له ضمن نطاق الحرب النفسية والتسويق الإعلامي.
وكان واضحاً منذ اندلاع حرب غزة أن جبهة الجولان السوري كانت لها خصوصية معينة جعلتها تنفرد عن باقي الجبهات التي يديرها محور المقاومة في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن، إذ قامت جميع الجبهات بتصعيد عملياتها ضد إسرائيل باستثناء جبهة الجولان التي لم تشهد سوى إطلاق صواريخ قليلة لم تترك أي أثر على مجرى الأحداث، وذلك بخلاف ما يقوم به الحوثيون في البحر الأحمر أو ميليشيات الحشد الشعبي التي استهدفت مدينة إيلات أكثر من مرة.
ولا تكتم أوساط سياسية سورية أن الهدوء على جبهة الجولان جاء بمبادرة من دولة الإمارات التي حاولت قراءة التطورات بنظّارات سورية، لذلك وجدت نصائحها بعدم الانخراط في التصعيد في غزة آذاناً صاغية في دمشق التي كانت متخوفة إلى حدّ بعيد من أن تشكّل حرب غزة بوابة للتصعيد ضدها كونها تمثل الحلقة الأضعف في محور المقاومة، وقد يكون ما تم تناقله وتسريبه من إرسال تهديدات إلى القيادة السورية في حال انخراطها في الحرب مؤشرات إلى أحقية المخاوف السورية.
ومنذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) استهدفت إسرائيل درعا والقنيطرة أكثر من مرة، ولكن معظم هذه الاستهدافات جاءت رداً على إطلاق صاروخ أو قذيفة مدفعية من الجانب السوري، ولم تصل أيٌّ من هذه الاستهدافات في الجنوب إلى مستوى ما شهدته معامل الدفاع في مدينة السفيرة شمال حلب، أو مدينة البوكمال في دير الزور أو السيدة زينب جنوب دمشق وصولاً إلى استهداف مبنى القنصلية الإيرانية.
ولوحظ أخيراً أن استهداف الجانب المحتل من الجولان السوري كان يتم عبر صواريخ أو طائرات مسيرة تنطلق من العراق ولبنان وليس من سوريا، في مؤشر جديد إلى وجود قناعة عامة لدى محور المقاومة بخصوصية الجبهة السورية، وأن لدى القيادة السورية حسابات خاصة ينبغي مراعاتها، لا سيما أنها تخوض حرباً طويلة مع الجماعات الإرهابية.
وما يعزز ذلك أن الخرق الوحيد لاتفاق التهدئة السري بين طهران وواشنطن الذي تم التوصل إليه في أعقاب الرد الأميركي على استهداف قاعدة البرج 222 في الأردن، جرى تنفيذه في 22 نيسان الجاري ضد قاعدة الرميلان الأميركية في سوريا ولكن انطلاقاً من الأراضي العراقية وليس السورية.
يعني ذلك أن الإعلان عن سحب إيران قواتها ومستشاريها من الجنوب السوري جاء في ظل عاملين يتناقضان مع التصريح نفسه، لأن جبهة الجنوب من أقل الجبهات التي تشهد وجوداً إيرانياً ولم يسبق أن قُتل فيها أي مستشار إيراني، كما أن جبهة الجنوب لم تتأثر بالحرب على غزة وظلت محافظة على هدوئها، بل من الواضح أن دول محور المقاومة تراعي خصوصيتها وتحرص على عدم التصعيد فيها.
وقد دفع ذلك العديد من المراقبين السوريين إلى الحديث عن وجود أسباب وخلفيات سياسية في إطار العلاقة بين طهران وواشنطن تقف وراء تسريب المصدر المقرب من "حزب الله" لخبر سحب القوات الإيرانية، وأنه ميدانياً لا يقدم ولا يؤخر، ولكنه قد يكون قابلاً للصرف لدى الإدارة الأميركية التي يمكنها استخدامه لخدمة أهدافها الانتخابية داخلياً من جهة، وكذلك يمكنها الاستناد إليه لفرض التهدئة وإبعاد شبح الحرب عن المنطقة قدر الإمكان.