شهدت سوريا خلال الأشهر الأخيرة تغييرات جذرية في المناصب الأمنية والحزبية ضمن خطة إصلاح يقودها الأمين العام لحزب "البعث" الحاكم الرئيس بشار الأسد لمواكبة التطورات الإقليمية والدولية وما تفرضه من تحديات، من جهة، ولمحاولة العمل على التخلص من حالة الفوضى الأمنية التي فرضتها الحرب المستمرة منذ عام 2011 ووقف تدهور الحالة الاقتصادية، من جهة أخرى. وقد أنتجت الانتخابات الحزبية التي أجريت أخيراً قيادة مركزية جديدة بنسبة 80% بعد ابتعاد أسماء كبيرة كان لها وزنها في قيادة الحزب، من أبرزها الأمين العام المساعد هلال هلال الذي حلّ مكانه الدكتور إبراهيم الحديد.
واجتمع الأسد، الأربعاء، مع القيادة المركزية الجديدة للحزب وناقش مع أعضائها أولويات المرحلة المقبلة حزبياً، وفي مقدمتها المسألة التنظيمية لكونها تنعكس على مؤسسة الحزب وبناه المتعددة، وتطال تطوير نظامه الداخلي أيضاً، وآليات إشراك القواعد الحزبية في الاقتراح والقرار.
وانطلق الأسد في مقاربته لدور الحزب من تأكيده أن "البعث" هو مؤسسة وليس أفراداً، وطرح ضرورة التموضع الصحيح للحزب بين كونه حزباً حاكماً من جهة، والحكومة والأجهزة التنفيذية المعبّرة من جهة أخرى، ليؤكد أولوية مطلوبة أكثر من أي وقت مضى وهي وضع السياسات والاستراتيجيات وصوغها، مبيناً أن الحوار إحدى أهم الآليات التي تسهم في تعزيز حضور الحزب في الحراك الفكري والثقافي في المجتمع، صانعاً أحياناً، ومشاركاً ومؤثراً أحياناً أخرى، بخاصة في ما يتعلق بالقضايا الوطنية والفكرية والاجتماعية الكبرى.
وتحدث الأسد عن أهمية النظام المالي الدقيق للحزب بما يحقق الحفاظ على موارد الحزب وتطويرها من ناحية، وتتبع نفقاته من جهة أخرى، وفرض موازنات مالية سنوية دقيقة.
وجرى التشديد على تقييم تجربة الحزب الانتخابية الأخيرة، وتطوير آلية عمل اللجنة العليا للانتخابات ودورها لتشرف بطريقة أكثر تطوراً على كل مستويات الانتخابات بمعايير تلحظ وتحقق التمثيل الدقيق للشرائح. كل ما سبق ضمن إطار زمني واضح ومحدد.
وأكد مصدر سوري لـ"النهار العربي" أن امتناع هلال عن الترشح في الانتخابات جاء بناءً على "تعليمات عليا" طالت شخصيات أخرى، مثل الدكتور محسن بلال ومهدي دخل الله وعمار الساعاتي، لمنعهم من الترشح لأي مناصب جديدة لضمان تحقيق التغيير المطلوب. وكان من الواضح أن بقاء هلال في منصبه أو إعطاءه أي دور في الإشراف على الانتخابات الحزبية سوف يعرقل إرادة التغيير، لذلك كان لا بدّ من تحييده بأوامر مباشرة وصريحة لا تحتمل التأويل.
وجاء استبعاد هلال من منصبه بعد حوالي شهرين من استبعاد اللواء علي مملوك من رئاسة مكتب الأمن الوطني، حيث حل مكانه اللواء كفاح ملحم قادماً من رئاسة شعبة الأمن العسكري. والمفارقة أن كلاً من هلال ومملوك ورد اسماهما في اتهامات وجهها إليهما عبد القادر حمو قائد الدفاع الوطني في الحسكة قبل مقتله بأسبوع في شهر أيلول (سبتمبر) من العام الماضي. وذكر حمو أن المسؤولين طلبا منه مبلغ 3 ملايين دولار لتسوية وضعه، وهو ما قال إنه رفضه ليُقتل بعد ذلك في عملية أمنية واسعة شهدها المربع الأمني في الحسكة حيث كان يتحصن مع بعض المقربين منه.
وبعيداً عن سياق هذه الاتهامات، اعتبر العديد من المراقبين أن استبعاد علي مملوك من منصب رئيس مكتب الأمن الوطني شكّل صفعة للنفوذ الإيراني في المؤسسة الأمنية، لأن مملوك، بحسب هؤلاء، كان من الشخصيات البارزة التي تعتبر التنسيق مع إيران من الأولويات الأساسية لضمان الاستقرار في سوريا. وما عزز ذلك أن خليفته في المنصب، اللواء كفاح ملحم، لم يكن ممن ينتهجون هذا النهج، بل كان يُنظر إليه على أنه من الشخصيات التي لا تُبدي حماسة كبيرة للتنسيق مع إيران، كان يفضل تحسين العلاقات مع بعض البلدان العربية، ولا سيما مصر التي زارها سراً أكثر من مرة قبل موجة التطبيع الأخيرة التي أعقبت زلزال 6 تشرين الثاني (نوفمبر) المدمر.
ولأنه أصبح من النادر أن يحدث أي شيء في سوريا من دون البحث عن أصابع إيران فيه، أو من دون استقصاء خلفياته ودلالاته من حيث تأثيره على النفوذ الإيراني، كان من الطبيعي والحالة كذلك أن لا تمر التغييرات الأمنية والحزبية مرور الكرام من دون إجراء تقاطع حسابات لتحديد مكاسب إيران وخسائرها من وراء هذه التغييرات.
وقد جاء تعيين الدكتور إبراهيم الحديد في منصب الأمين العام المساعد للحزب خلفاً للمهندس هلال الهلال، كي يعزز هذه النظرة، لا سيما في ظل اعتقاد البعض أن ما جرى حزبياً كان بمثابة تعويض عما خسرته إيران أمنياً.
وقد حفّز ذلك العديد من المراقبين على البحث عن رأس خيط أو أي معلومة لإثبات وجهة نظرهم القائلة بأن تعيين الحديد في منصبه الحزبي الجديد، إنما كان الهدف منه إرضاء إيران من دون إغفال أهمية الدوافع الداخلية التي كانت تضغط باتجاه التغيير بسبب دخول البلاد في عنق الزجاجة، وعدم قدرتها على الخروج منه.
وتشير السيرة الذاتية للحديد إلى أنه كان مؤهلاً للوصول إلى هذا المنصب. وهو من مواليد مدينة تلبيسة في محافظة حمص 1956، وحاز شهادة الطب من جامعة حلب عام 1980، ثم انتقل إلى بريطانيا للتخصص في الجراحة البولية عام 1986، وعُين بعد عودته في مناصب عدة، في نطاق عمل وزارة الصحة، بدءاً من إدارة مستشفيي الكندي وحلب الجامعي، ثم عمادة كلية الطب في جامعة حلب، قبل أن ينتقل إلى العمل الحزبي، حيث عُيّن عام 2018، أمين فرع حزب "البعث" في جامعة حلب.
وينتمي الحديد إلى قبيلة الحدادين عشيرة المعاطة، وهي من العشائر التي توصف بأنها "هاشمية" نسبة إلى آل هاشم المكيين، وبذلت إيران جهوداً كبيرة من أجل تعزيز علاقاتها مع العشائر الهاشمية في سوريا، وهو ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن تعيين أحد أعضاء العشيرة في أعلى منصب حزبي بعد منصب الرئيس يعتبر إشارة إيجابية في ظل الأوضاع الحالية التي تشهد توتراً مكتوماً في العلاقة بين دمشق وطهران على خلفية تطورات حرب "طوفان الأقصى" التي شهدت تبايناً سورياً إيرانياً في طريقة التعاطي معها.
وفي عام 2021 شهدت جامعة حلب التي كان الحديد يتولى منصب أمين فرع الحزب فيها، انعقاد المؤتمر الأول حول "إعادة الإعمار في سوريا/استراتيجيات وتجارب"، وجاء انعقاد المؤتمر بالتعاون بين جامعة حلب والقنصلية الإيرانية في حلب.
وعلى هامش المؤتمر أكد الحديد في حينه أن "العلاقات الإيجابية بين إيران وسوريا من خلال وجود القاسم المشترك وهو محور الممانعة والمقاومة، حيث اختار البلدان أن يكونا جزءاً لا يتجزأ من ذلك المحور".
وأضاف الحديد كذلك أن "العلاقات الوطيدة بين الشعوب لا تجمعها مقاومة عسكرية فقط بل حلقات تعاون استراتيجية تشمل العلم والإنتاج والبناء والصناعة والتجارة وكل المحاور الحياتية".
وقد يكون مما له دلالته في المشهد الحزبي الجديد أن هلال كان سعى جاهداً خلال انتخابات مجلس الشعب السوري عام 2020 من أجل استبعاد شخصيات مقربة من إيران، كان من أبرزها رجل الأعمال محمد حمشو المدعوم من ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة، ولا يستبعد البعض أن يكون ذلك من بين الأسباب التي دفعت إلى إخراج التغييرات الحزبية بالشكل الذي خرجت به بعد الانتخابات الأخيرة قبل أيام.