خيّمت على إدلب السورية أجواء من التصعيد والتوتر بعد قرار "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) المسيطرة على المدينة، نشر قوات من جناحها العسكري في شوارع المدينة، بهدف قمع التظاهرات المتواصلة ضدّها منذ ما يقارب الثلاثة أشهر، وذلك بعد فشل جميع مساعي التفاوض التي بذلها قائد الهيئة أبو محمد الجولاني، سراً وعلناً، مع أطراف عديدة من أجل إيجاد حلّ يرضي الجميع.
وكان الجولاني واضحاً منذ البداية بأنّه لن يسمح بـ"تجاوز الخطوط الحمر"، وذلك في حديث له مع فعاليات مدينة إدلب في 13 آذار (مارس) الماضي، وحذّر من أن "تدخّل الهيئة ضدّ كل من يتجاوز هذه الخطوط سيكون شديداً". وتأخّر الجولاني حتى مطلع الشهر الجاري قبل أن يبدأ بتنفيذ تهديداته المبطنة.
وتعزو مصادر مقرّبة من "هيئة تحرير الشام" هذا التأخير إلى سببين رئيسيين هما: الأول، وجود توتر بين جناحي الهيئة، الأمني والعسكري، على خلفية ملف العملاء الذي تعرّض من خلاله قادة كبار من الجناح العسكري للتعذيب أثناء التحقيق معهم من قبل الجناح الأمني المسمّى جهاز الأمن العام. والثاني، كان يتمثل في رغبة الجولاني في إعطاء فرصة لخيار الحوار والتفاوض، نظراً لإدراكه مدى خطورة اللجوء إلى الحل الأمني والعسكري، سواءً داخلياً، من حيث العلاقة مع حاضنته الشعبية، أو خارجياً، لا سيما بالنسبة لتركيا التي تنظر إلى أيّ توترات أمنية في المنطقة على أنّه يشكّل تهديداً لسياستها الرامية إلى احتواء ملف اللجوء السوري على أراضيها.
وتوصّل الجولاني عبر وسطاء إلى إيجاد صيغة لتهدئة التوتر بين بعض مكوّنات الجناح العسكري، وبخاصة "لواء علي بن أبي طالب"، والجناح الأمني، ما جعله يشعر بفائض قوة مكّنه من تدشين مسار الحل العسكري عبر الإيعاز لبعض التشكيلات للنزول إلى الشارع. كما تمكن قائد "هيئة تحرير الشام" من عقد صفقة مع أنقرة لحماية الحدود التركية من اللاجئين السوريين، وذلك عبر القيام بدور في محاربة شبكات التهريب التي تقوم بنقل السوريين إلى الأراضي التركية مقابل مبالغ مالية. ويبدو أنّ هذه الصفقة جعلت الجولاني يشعر أنّ أنقرة غير مهتمة إلّا بمصالحها، ولا يعنيها مآل الاحتجاجات ضدّه وكيفية التصدّي لها.
النقطة الوحيدة التي فشل فيها الجولاني هي إقناع بعض المناهضين له ممن يمارسون دوراً قيادياً في الاحتجاجات ضدّه، وبخاصة الشيخ عبد الرزاق المهدي وأبو أحمد زكور، وكان الرجل الثالث في الهيئة قبل أن ينشق عنها مؤخّراً، في التوصل إلى صيغة مقبولة لإيجاد حل لهذه الاحتجاجات. وبينما حرص الجولاني على زيارة الشيخ مهدي علناً في بيته للتفاوض معه بهذا الخصوص، أكّدت مصادر مقرّبة من زكور أنّ الأخير تلقّى اتصالات عدة من وسطاء كلّفهم الجولاني للتواصل معه للهدف نفسه.
غير أنّ هذه المفاوضات السرّية والعلنية لم تصل إلى نتيجة. ويبدو أنّ فشلها لم يكن له تأثير لدى قيادة "هيئة تحرير الشام"، التي اعتبرت أنّ عودة الالتئام بين جناحيها الأمني والعسكري، إضافة إلى إرضاء أنقرة عبر تخفيف ضغط اللاجئين عليها، يكفيان للانخراط في تنفيذ الحل العسكري.
وقد أعطى الجولاني إشارة البدء بتنفيذ سيناريو الحل العسكري من خلال تأكيده يوم الأربعاء الماضي، في لقاء جمعه مع بعض وجهاء المدينة أن "المحرّر (المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية) دخل في مرحلة جديدة، ويجب أن يعود المحرّر لانتظامه، ولن نسمح أن تعود حالة الفوضى والتشرذم".
واعتبر أنّ البعض "ساقه حقده للتضحية بكل المحرّر"، مضيفاً، "من هان عليه المحرّر فقد هان علينا، ولن نتهاون مع أي شخص أو تجمّع أو حزب أو فصيل يريد إيذاء المحرّر، وعلى هذا نجتمع جميعاً".
إشارة الجولاني جاءت بعد ساعات من قيام "هيئة تحرير الشام" بفض اعتصام قاده "حزب التحرير"، أمام المحكمة العسكرية في إدلب، لمنع تنفيذ قرارات إعدام بحق بعض المدانين.
وفي أعقاب ذلك، بدأت يوم الخميس الماضي، مجموعات كبيرة من "غرفة الفتح المبين" التي تقودها "هيئة تحرير الشام" وتضمّ فصائل أخرى مثل (أحرار الشام وصقور الشام وجيش العزة والجبهة الوطنية للتحرير)، بنشر حواجز عسكرية على مداخل مدينة إدلب، كما نصبت العديد من الحواجز داخل المدينة وعلى شوارعها الرئيسية، تحسباً لتظاهرات يوم الجمعة.
ورأى عدد من المراقبين أنّ الوضع في مدينة إدلب يتجه نحو تصعيد خطير، لأنّ كل طرف، الهيئة والمتظاهرين ضدّها، يتمسك بموقفه ويرفض التراجع عن مطالبه وسياساته. وبالرغم من وجود فرصة محتملة لنجاح مساعي التهدئة بين الطرفين، خصوصاً إذا قرّرت تركيا التدخّل بثقلها من أجل إقناعهما بإيجاد حل لهذه المعضلة، يبقى سيناريو التصعيد هو الأكثر احتمالاً لأنّ لدى كل من الطرفين رؤية مفادها أنّ نجاحه في تحميل مسؤولية التصعيد للطرف الآخر سوف يكسبه تعاطف الفئات الشعبية، ويبدو حتى الآن، أنّ كلاً منهما راغب في خوض هذه المغامرة لاعتقاده بأنّ الرهان يصبّ في مصلحته.