فقدت إيران رئيسها إبراهيم رئيسي ووزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان. وبينما لا تزال العاصمة الإيرانية تعمل على احتواء آثار الحادثة جاهدةً لتطويق تداعياتها المحتملة على سياستها الداخلية والخارجية، برزت في دمشق على هامش المأساة، تساؤلات كثيرة حول مدى تأثير غياب هذين المسؤولين على سياسة طهران تجاه العاصمة السورية، وهل يمكن أن تشكّل هذه الحادثة منعطفاً قد يؤثر على علاقة البلدين، سلباً أو إيجاباً، بخاصة في ظل التوتر المكتوم الذي ساد بينهما خلال الشهور الأخيرة على خلفية "طوفان الأقصى" وقصف القنصلية الإيرانية ومقتل العديد من قادة الحرس الثوري، وهل يمكن أن تتحول المحنة الإيرانية إلى فرصة قد تستغلها دمشق من أجل إعادة رسم حدود علاقتها بحليفها الأبرز وسط ما تتعرض له من ضغوط وانتقادات من بعض الدول العربية بسبب تماهيها مع سياسات المحور الإيراني؟
تفاعلت القيادة السورية بسرعة كبيرة مع مقتل المسؤولين الإيرانيين في حادث تحطم المروحية. وفي خطوة ليست لها سابقة في أرشيف السياسة الحديثة لسوريا، وتدلّ إلى حرص دمشق على إبداء أقصى مستويات التعاطف مع إيران في مأساتها، أعلنت الرئاسة السورية الحداد لمدة ثلاثة أيام، إلى جانب حرص مؤسسات الحكم كافة والكثير من المسؤولين السوريين، على إرسال برقيات التعزية إلى نظرائهم في طهران.
موجة التعاطف لم تستطع أن تخفي الجانب العملي للآثار المحتملة التي قد تترتب على الحادثة بسبب ما تتمتع به طهران من نفوذ قوي في سوريا على الصعد كافة. وتأتي أهمية ذلك انطلاقاً من كون إبراهيم رئيسي هو الرئيس الإيراني الوحيد الذي زار دمشق منذ اندلاع الأزمة عام 2011، بالإضافة إلى أنه كان سبّاقاً إلى تغيير وجه الدبلوماسية الإيرانية تجاه الملف السوري محاولاً، أثناء زيارته دمشق في شهر أيار (مايو) الماضي، إرساء استراتيجية "الحضور الناعم" كجزء من انطلاقة جديدة تقوم على تلطيف الأداء وتجميل الانطباع ليرافقا تعميق التوغّل وتوسيع نسيج النفوذ، طبقاً لاستراتيجية العنكبوت التي أقرها رجال طهران، (وفق مقال سابق للزميلة راغدة درغام في "النهار العربي").
ولتحقيق ذلك انهمك حسين أمير عبد اللهيان، منذ تسلم منصبه عام 2021 في وضع لمساته الخاصة على الملف السوري، وهو ما تبدى خاصة في طريقة إدارته اجتماعات أستانا ومحاولة العمل على احتواء النفوذ التركي من دون اصطدام معه، تمهيداً للجهود التي بذلها لاحقاً، بهدف إعادة تأهيل دمشق عربياً، والعمل على تطبيع علاقاتها مع بعض الدول، لا سيما تركيا.
ومع ذلك تعرضت العلاقة بين دمشق وطهران لتحدٍّ كبير، أخيراً، مع تفاقم تداعيات "طوفان الأقصى" على سوريا، وبخاصة بعد قصف القنصلية الإيرانية وما استتبعه من ردود غير مسبوقة بين إيران وإسرائيل، كادت تهدد باشتعال صراع إقليمي واسع لولا جنوح الأطراف في اللحظات الأخيرة إلى تهدئة محسوبة لكن لا تزال غير مستقرة. ويرى العديد من المراقبين أن هذه العلاقة عانت توتراً مكتوماً بين العاصمتين بسبب اختلاف وجهات النظر حول كيفية التعاطي مع حرب غزة وامتداداتها، وسط ترجيح رغبة دمشق في عدم التصعيد مع أي طرف كان، لأن ظروفها الخاصة لا تسمح بذلك.
وتعبّر الأوساط السياسية في دمشق عن قناعة ثابتة مفادها أن العلاقة مع طهران أقوى من أي تحديات، وبإمكانها تجاوز كل العقبات التي تعترض طريقها، مع التشديد على أن هذه العلاقة لا تتأثر بتغير الأشخاص أياً كانت مناصبهم لأنها مبنية على أسس استراتيجية بعيدة المدى. ويشير البعض إلى أن مسارعة دمشق إلى إعلان الحداد وتنكيس الأعلام تدلّ إلى مدى حرصها على استقرار العلاقة مع حليفتها الاستراتيجية، ورغبتها في تحصينها ضد أي تطورات مفاجئة كحادثة المروحية.
غير أن الأمور لا تسير بمثل هذه البساطة، لأن طهران بفقدان رئيسها ووزير خارجيتها تكون قد خسرت الفريق السياسي المسؤول عن إدارة العلاقة مع دمشق، بعد ما يقارب من شهر فقط، من خسارتها كامل الطاقم المسؤول عن هذه العلاقة على المستويين الأمني والعسكري، وذلك بمقتل أعضاء هذا الطاقم في استهداف القنصلية مطلع نيسان (أبريل)، وكان من أبرزهم الجنرال محمد رضا زاهدي. لذلك فإن الأمر لا يتعلق بمدى أهمية هذا الشخص أو ذاك، لأنه على ما يبدو أصبحت مستويات إدارة العلاقة بين الطرفين شاغرة بالكامل وعلى نحو غير مسبوق، ما يعني أن المرحلة القادمة ستكون في غاية الأهمية لأنها ستشهد إعادة ملء هذه الشواغر بشخصيات جديدة ستكون لديها قناعاتها وبصماتها الخاصة التي لا بد من أن تترك تأثيراً على طبيعة العلاقة بين البلدين.
ومع ذلك يظن قسم من المراقبين أن هذا الشغور المفاجئ والقسري لن يترك تأثيرات كبيرة على علاقة دمشق مع طهران، وذلك لسبب بسيط وهو أن العلاقة مع دمشق بالنسبة إلى طهران تُعتبر من الملفات التي يديرها من ألفها إلى يائها الحرس الثوري الإيراني ومن خلفه "الدولة العميقة" التي لا تتغير استراتيجياتها بتغير الأشخاص.
ويرى هؤلاء أنه منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011 انتقلت إدارة العلاقة مع دمشق من يد وزارة الخارجية إلى يد الجنرال الراحل قاسم سليماني الذي جعلها من مسؤولية "فيلق القدس"، حتى كان قد تولّى شخصياً مهمة تنظيم زيارة للرئيس السوري لإيران، وهو ما أحدث في حينه أزمة مع وزارة الخارجية في عهد محمد جواد ظريف.
وقتل قاسم سليماني في غارة أميركية طالته في العراق في كانون الثاني (يناير) 2020، غير أن نهجه ظل مستمراً وظل الملف السوري في أيدي "فيلق القدس" تحت إشراف مرشد الثورة من خلال مؤسسة "بيت المرشد".
لذلك من غير المتوقع أن تطرأ تغيرات كبيرة على مسار العلاقة بين سوريا وإيران، كونها لا تتأثر عملياً بالحكومات وتوجهاتها ما دام من يرسم السياسات العليا لهذه العلاقة هو مؤسسات الدولة العميقة، فيما يقتصر دور الرئاسة ووزارة الخارجية على تنفيذ ما يُرسم.
ولكن في ظل التوتر غير المعلن عنه في العلاقة بين إيران وسوريا، خلال الأشهر الماضية، يبدو أن الكثير من التفاصيل قد تكون لها أهميتها في تحديد مدى انعكاس مقتل المسؤولين الإيرانيين على الملف السوري والعلاقة مع دمشق. فقد سُجلت مؤخراً العديد من الخطوات التي اتخذتها العاصمة السورية بهدف الحد من مظاهر النفوذ الإيراني، كان آخرها منع الحجاج الإيرانيين من دخول الجامع الأموي.
ومن غير المستغرب إذا كانت لدى دمشق رغبة حقيقية في تطويق النفوذ الإيراني أن تعتبر مرحلة الشغور في القيادة الإيرانية بمثابة فرصة لاتخاذ خطوات أخرى على المسار نفسه.