يعتقد نشطاء ومهتمون بالشأن العام في سوريا أنّ الحكومة ارتكبت خطأً فادحاً خلال الحرب، عبر السماح باستثمار الحدائق العامة بموجب عقود طويلة الأجل مقابل أرقام زهيدة يدفعها المستثمرون، ما حرم الناس من متنفسات ومتنزهات للأطفال، الأمر الذي حاولت الحكومة استدراكه أخيراً بقرار وزاري يمنع فتح استثمارات جديدة، وكذلك تمديد الاستثمارات الحالية عند انتهاء عقودها حتى أجل غير مسمى، أو حتى صدور تعليمات جديدة في هذا الشأن، تعليمات قد يكون من شأنها إعادة تنظيم واقع الاستثمار بأكمله.
وغيّر تحول الحدائق العامة إلى ملاهٍ ومطاعم ومقاهٍ كثيراً من أشكال الأحياء المألوفة تاريخياً، وصولاً إلى اتهام المستثمرين باستحداث الفوضى والتسبب بالإزعاج للسكان أحياناً، وهذا الرأي نفسه موضع جدل بين الأهالي المختلفين في وجهات نظرهم، وبين أصحاب المقاهي الذين يملكون أسباب دفاعهم عن مشاريعهم.
مسؤولية اجتماعية وتجميلية
محمود إبراهيم هو مدير "مقهى فيروز" في حي عكرمة في مدينة حمص، يتسم مقهاه بطابعه الشرقي المستمد اسمه وتصوره البصري وطابعه العام من السيدة فيروز التي تطغى بحضورها صوتاً وتيمةً في المكان. يقول لـ"النهار العربي": "لا يمكن اختصار رمزية المقهى بأنّه مشروع تجاري وحسب، بل الأمر يتعدى ذلك ليصل إلى مسؤولية اجتماعية تامة الأركان والمواصفات، بدءاً من كوننا معنيين بإقامة نشاطات ترفيهية للأطفال المصابين بمتلازمة داون، وصولاً إلى التكريم المستمر لعمال النظافة وغيرهم مروراً بمختلف المبادرات الخيرية، إضافة إلى نجاحنا في تحقيق الدمج الاجتماعي لمختلف الفئات الحمصية بعد الحرب ومن كل الأطياف والتوجهات والمناطق في مكان واحد".
ويضيف إبراهيم: "الحديث عن وجود أي مشروع في حديقة ما يرتب علينا مسؤوليات إضافية ليست سهلة، وأولاها استصلاح الحديقة التي كانت مهملة تماماً، ورعايتها والاعتناء بزهورها ومياهها والإضاءة فيها وتأمين الموارد الكافية لتعيين حارس ليلي لها، وبالتالي تصبح المساحات الفارغة منها مكاناً للجلوس في أحضان طبيعتها المتجددة والمعتنية بها".
استثمارات لرفد خزائن مجالس المدن
وتشرح إلهام شبيب، وهي مديرة الأملاك في مجلس المدينة الذي يتبع مباشرةً لوزارة الإدارة المحلية المعنية بتنظيم هذا النوع من الاستثمار بعض جوانب الملف لـ"النهار العربي"، بقولها: "الحدائق أملاك عامة بالأساس، القانون أعطى المكتب التنفيذي في المجلس الصلاحية لإدارتها وتحديد شروط الإشغال، من حيث المساحة أو الرسم أو المدة، وتم طرح تلك الحدائق في المزاد العلني تجاوزاً من دون عقود مباشرة، وكانت هناك شروط محددة تلزم المستثمر بتحسينات وزراعة وري وإنارة وتركيب سور وتقليم أشجار، فمن يقدم كل تلك الخدمات يكون قد وفر على مجلس المدينة أعباءً كبيرة ومبالغ ضخمة، وذلك لقاء استثماره جزءاً لا يزيد عن 10 في المئة من إجمالي حجم الحديقة".
وتضيف شبيب: "يتم منح ذلك الاستثمار لقاء مبلغ مادي يعود إلى مجلس المدينة الذي بدوره يعود إلى تقديم الخدمات اللازمة في أماكن أخرى، فمجالس المدن تعتمد على تمويلها الذاتي، لذلك تبحث عن أكبر عدد من المستثمرين لتتمكن من رفد خزينتها ومدّ المدن بما تحتاجه من أرصفة وطرق وإنارة وهدم وترحيل أنقاض وغيرها".
حالة عصرية وبيئة جامعة
وفي هذا السياق، يوضح مدير "مقهى فيروز" أن عمل المستثمرين يشتمل على إضاءة محيط المقهى في الحي، وكذلك تقديم صورة عصرية متطورة عن مفهوم المقاهي والحالة الاجتماعية ضمن المقهى عبر استقبال رواده وتأمين كل احتياجاتهم ضمن أسعار مدروسة تناسب جميع الفئات، وخصوصاً طلبة الجامعات.
"يشكّل المقهى أيضاً ملاذاً هادئاً لطلاب الجامعة القريبة منه صباحاً وفي المساء مكاناً للاجتماع والسهر ضمن قيود اجتماعية تحافظ على الهدوء التام وتمنع المشاكل"، يضيف.
ويبيّن محمود إبراهيم أنّ من فوائد تلك الأنواع من المشاريع أنّها تؤمن فرص العمل لشريحة الشباب، وخصوصاً لطلاب الجامعات، إذ يعمل لديه نحو 20 عاملاً، فضلاً عمّا يصفه بجمالية الحركة في جوار المقهى بفضل ديكوره اللافت والبسيط المستوحى من السيدة فيروز والذي دفع إلى افتتاح بجواره وكذلك مراكز تجميل ومصالح أخرى متنوعة وكثيرة.
ضرورةٌ لا يمكن تجاوزها
تلك المشاريع لها سلبياتها أيضاً، تقول إلهام شبيب: "يخضع الاستثمار للتوازن السعري بناءً على القانون 10 الذي صدر عام 2015، والآن صدر تعميم من وزيرة الإدارة المحلية لإعادة دراسة التوازن السعري، وبالتأكيد وردت بعض الشكاوى على عدد من المنشآت، لكنها كانت كلها تحت السيطرة وتمت معالجتها سريعاً، كمثل شكوى من ضجيج مدينة ألعاب داخل إحدى الحدائق تمت صيانتها، وانتهت المشكلة".
وتؤكد شبيب تشكيل لجان إشراف لممارسة رقابة مباشرة على تلك المشاريع ولضبط الشروط ومطابقتها على أرض الواقع. وتقول إنها شخصياً ضد طلبات تحويل المقاهي إلى مطاعم في الحدائق لئلا يحصل تمدد غير مشروع على أراضي الحديقة الأساسية، لكنها تستدرك قائلة: "لا يمكن إنهاء العقود فوراً، فيما يمكن عدم التجديد أصولاً، ولكن نحن بحاجة إلى هؤلاء المستثمرين، وهذا يتضح في إدارة الحدائق التي تعاني نقصاً كبيراً في العاملين، وعدد كبير منهم في سن التقاعد، واعتماد الحدائق المالية من الموازنة ضئيل، وبالتالي الحدائق ستكون مهددة، وأيضاً لن يعود هناك مدن ملاهٍ ومقاعد وإدارة بسبب الإمكانات الشحيحة".
معترضون
يتفق كل أصحاب المقاهي مع وجهة نظر محمود إبراهيم في أنّهم أضفوا روحاً على تلك الأماكن وزادوها رونقاً وجمالاً وحضوراً، ولكنّ بعض السكان يختلفون معهم، ومن بينهم المهندس جمال شيباني الذي يشتكي من الضجيج المستمر، ويقول لـ"النهار العربي": "هناك بعض المقاهي في جواري هنا في دمشق لا تغلق حتى ساعات متأخرة من الليل، ضجة في داخلها وعلى أبوابها، وأصوات لاعبي الورق وبين الحين والآخر تحصل الكثير من المشاكل، لا أشعر بالاطمئنان والارتياح، عدا صوت المولدات، كانت منطقتنا هادئة، ولكنّ ثورة مقاهٍ تفجرت في الأعوام الماضية".
ويوافق المخبري إحسان الحسن على وجهة نظر شيباني بقوله: "يجب أن تكون هناك ضوابط فعلية لتلك المقاهي، في جواري في جرمانا في ريف دمشق ثلاثة مقاهٍ، كل يوم تحصل مشاجرة وتأتي الشرطة لتفضها، وازدحام غريب لأشخاص غرباء عن المنطقة، وصياح طوال الوقت، هذه الضجة جعلتني أفكر حقاً في بيع منزلي".