أحيت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجمعة توقعات بقرب التوصل إلى اتفاق تركي – سوري، بعد سلسلة من التصريحات الإيجابية من الأطراف المعنية، وتسريبات إعلامية حول انعقاد لقاءات بين الجانبين بمبادرة روسية.
يُعتبر الاتفاق المرتقب متأخّراً في سياق خطوات التطبيع المتسارعة للرئيس التركي خلال السنتين الأخيرتين بشكل خاص، لكن تعقيدات الملف السوري وتشعباته الإقليمية تفسّر إلى حدّ كبير تعثر مساعي إعادة الدفء إلى العلاقات التركية - السورية حتى اليوم، بينما يركّز الطرفان، كل من وجهة نظره، على مكاسب التطبيع المأمول.
إيجابيات متبادلة
في حديثه لوسائل الإعلام غداة خروجه من "جامع علي"، عقب أدائه صلاة الجمعة، قال أردوغان إنه يمكن أن يجتمع بالرئيس السوري بشار الأسد "في جمعة عائلية"، مؤكّداً أن "لا سبب لعدم إعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا... يمكننا أن نفعل ذلك مرّة أخرى كما فعلنا في الماضي، وليس لدينا أي نيّة للتدخّل في الشؤون الداخلية لسوريا".
فرض مسارا سوتشي وأستانا بدءاً من عام 2017 شكلاً من معاهدة السلام الموقت في الشمال السوري بتثبيت "الأمر الواقع" الذي خرقته أنقرة مرّتين على الأقل، حين نجحت في ضمّ المزيد من المساحات الجغرافية بمباركة أميركية وروسية ضمنية، تحت مسمّى "الحرب ضدّ إرهاب حزب العمال الكردستاني".
في المقابل، نجحت موسكو في رسم خط أحمر فاصل بين مناطق سيطرة دمشق وأنقرة من دون أن تتردّد في استخدام القوة العسكرية لتثبيت الحدود المذكورة، كما حصل حين قامت مقاتلات يُرجّح أن تكون روسية، بضرب قوة عسكرية تركية كانت تحاول التقدّم نحو مناطق وجود الجيش السوري في ريف إدلب، موقعة في صفوف الجنود الأتراك عشرات القتلى والجرحى.
لكن جهود موسكو لإرساء الاتفاق النهائي بين أنقرة ودمشق اصطدمت بمطالب الأخيرة التي عدّتها تركيا عالية السقف، نظراً إلى عدم امتلاك الحكومة السورية القدرات العسكرية والسياسية والاقتصادية الداعمة لهذه المطالب في وجه أردوغان المدعوم من الشرق والغرب على حدّ سواء.
لكن ما هي العوامل التي تدفع تركيا اليوم إلى القبول بما اعتبرته حتى الأمس القريب خطاً أحمر؟
يقول فهيم تاشتيكين، الصحفي التركي الخبير بشؤون الشرق الأوسط، لـ "النهار العربي" إن مسألة السلام مع دمشق قرار اتخذته أنقرة منذ زمن طويل، "في وقت أصبح فيه اللاجئون السوريون مشكلة كبيرة في الداخل التركي، ومع وجود أميركا في شرق سوريا، لم يعد بإمكان أنقرة عمل الكثير بشأن الأكراد، لذا غدت أنقرة عالقة في دوامة من دون مخرج".
يضيف الصحفي المخضرم، وصاحب العديد من الكتب السياسية حول سوريا والمنطقة: "هناك إجماع على كافة مستويات في الدولة التركية على أن السلام مع سوريا أمر ضروري للمضي قدماً في هذه القضايا".
وبعد خسارة بلديتي اسطنبول وأنقرة، الأكبر في البلاد، في الانتخابات المحلية في عام 2019، عززت الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية من قيودها على اللاجئين السوريين، الذين كانوا أحد أسباب امتناع الناخبين الأتراك عن التصويت لصالح الحزب القابض على كبرى بلديات البلاد منذ نحو ربع قرن.
وشهدت السنوات اللاحقة إجراءات قسرية وقيوداً على حركة تنقّل اللاجئين السوريين بين الولايات، وإغلاق أحياء في العديد من المدن أمامهم، وإلغاء تصاريح الإقامة الموقتة للكثير منهم، مع تسريع عمليات الترحيل التي اتسمت بالعشوائية في الكثير من الأحيان.
ثم جاءت الخسارة المدوّية في الانتخابات البلدية الأخيرة لتعزز قناعات الرئيس التركي وشريكه في "تحالف الشعب" الحاكم، دولت باهتشيلي، زعيم حزب الحركة القومية، أن اللاجئين السوريين أبرز عوامل نزيف الأصوات الانتخابية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمرّ فيها البلاد، وفشل محاولات الحكومة لإقناعهم بإيجابيات وجود هؤلاء كأيدٍ عاملة رخيصة الثمن لناحية الرواتب المتدنية والضمانات والتأمينات المعدومة.
وساطة عراقية على خط المصالحة
بعد فشل الجهود الروسية والإيرانية، دخل العراق على خط المصالحة السورية - التركية مستغلاً التقارب المتسارع بين بغداد وأنقرة خلال الأشهر الأخيرة، والذي أفضى إلى توقيع سلسلة من الاتفاقات الأمنية والتجارية تحت مظلة مشروع "طريق التنمية" الاستراتيجي.
وكشف محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، في مطلع حزيران (يونيو) الجاري عن جهود للمصالحة تقودها حكومته، وعن تواصله مع الرئيسين الأسد وأردوغان، واعداً "بخطوات في هذا الصدد قريباً".
وتشرح هدية ليفينت، الصحفية التركية الخبيرة بملفات الشرق الأوسط والسياسة الخارجية التركية، لـ "النهار العربي" أن العراق لا يملك القدرة الكافية على إتمام مثل هذه الخطوة، "لكن دخوله على خط المصالحة كان مهمّاً بعد انسداد المسارين الإيراني والروسي من جهة، وطبيعة العلاقات التي تجمع بغداد بكل من دمشق وأنقرة وطهران وموسكو وعواصم فاعلة أخرى في المنطقة وأهمها الرياض، إضافة إلى العلاقات مع أميركا".
وبحسب ليفينت، تحاول تركيا تقوية موقعها في العراق، لسدّ الفجوة المحتملة بعد انسحاب أميركا منه، وهذا السبب الرئيسي خلف تقارب أنقرة وبغداد وأربيل، "وبطبيعة الحال، الانسحاب الأميركي من العراق سيترافق مع انسحابها من سوريا أيضاً، لذا تسعى أنقرة أيضاً إلى حلّ قضية "حزب العمال الكردستاني" في العراق من خلال العلاقات مع بغداد وأربيل، وحلّ قضية وحدات حماية الشعب في سوريا من خلال التعاون مع دمشق".
وعلم "النهار العربي" من مصادر سورية مطّلعة على الجهود العراقية، أن دمشق قدّمت لبغداد ورقة الشروط المعلنة سورياً للتطبيع مع تركيا، والمتمثّلة بوضع خارطة طريق للانسحاب التركي من الشمال وقطع أنقرة دعمها للفصائل المسلّحة في "الجيش الوطني" والتي تعتبرها إرهابية، وهي بانتظار الردّ على مطالبها.
وفي حين لم يصدر من الجانب الرسمي السوري أي تعقيب على تصريحات السوداني، أرسل الأسد الإشارة الجديدة عبر القناة الروسية، حين جدّد موقف بلاده المكرّر من المصالحة مع تركيا غداة الاجتماع مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي ونائب وزير الخارجية في دمشق قبل أيام.
يمكن قراءة الخطوة السورية تأكيداً من دمشق على الدور الروسي المحوري في المصالحة مع أنقرة، بغض النظر عن الأطراف المنخرطة في الملف، خصوصاً أن روسيا هي الضامن المفترض لتنفيذ أردوغان تعهّدات مطلوبة سورياً.
كذلك، تحاول أنقرة، التي باتت أكثر انسجاماً مع العقوبات المالية والمصرفية على روسيا، وزادت من تعاونها العسكري مع أوكرانيا، طمأنة موسكو عبر التقرّب من دمشق من جهة، ونزع فتيل توتّر محتمل معها مستقبلاً عبر القناة السورية من جهة أخرى.
قبل أيام، نشرت صحيفة "إيدينليك" التركية التابعة لحزب "الوطن" الذي يروّج لمعارضته للحكومة في تركيا، عن لقاء جرى بين قادة أمنيين وعسكريين من سوريا وتركيا بوساطة موسكو في قاعدة حميميم الروسية جنوب اللاذقية، وهو ما نفته مصادر سورية لـ "النهار العربي".
ويعتقد تاشتيكين، المتابع لملفات الشرق الأوسط عن قرب، أن "العلاقات التركية مع روسيا لا تسير على ما يرام. لدى أنقرة اتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولهذا السبب أصدر بوتين مؤخّراً تحذيراً لافتاً، ثم عقد اجتماعاً استثنائياً مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان. وإذا التقى الزعيمان (بوتين وأردوغان) في قمة منظمة شنغهاي للتعاون، فسوف يتبين الوضع أكثر".
ويشير تاشتيكين إلى أنه "قبل اجتماعات موسكو، كان لدى تركيا آمال كبيرة لإتمام المصالحة لقناعتها بعدم قدرة الأسد على مقاومة ضغوط إيران وروسيا. وبعد فشل الجهود الروسية – الإيرانية، أدخلت أنقرة العراق على الخط، لكن لم يتمّ تحقيق أي شيء حتى الآن. كما تمّ طلب الوساطة من الرئيس المصري، وأرادت تركيا التأثير على دمشق عبر قناة الإمارات، لكن من دون نتيجة. والآن، تحاول التأثير بشكل مباشر على دمشق من خلال توجيه رسائل أكثر دفئاً".
هل ينجح المسار هذه المرّة؟
جملة من الأسباب الداخلية والإقليمية تجعل المحاولات الحالية أقرب إلى النجاح مقارنة بالخطوات السابقة. لكن، ما زال الطريق محفوفاً بجملة من العقبات وتضارب المصالح، فيما يبقى البت في إمكانية إتمام المصالحة منوطاً بقدرة الطرفين على الليونة خلال المفاوضات غير المباشرة، في ظل صعوبة تحقيق أنقرة شروط دمشق.
ويرى تاشتيكين أن الخوف من حرب إقليمية أكبر مرتبطة بلبنان يتصاعد، وتركيا تريد حل المشاكل المحيطة بها في أسرع وقت ممكن، "حيث سادها الخوف فترة طويلة ليس بشأن الوضع في سوريا فحسب، بل أيضاً من احتمال حدوث انفجار داخل تركيا، ولا يوجد في الداخل من يقف ضدّ التطبيع، بما في ذلك المعارضة".
لكنه يستطرد قائلاً: "تبقى الخطة التركية في ما يتعلق بانسحاب الجنود الأتراك غير ناضجة، ولا إمكانية لإقناع الأسد بإنجاز المصالحة من دون انسحاب".
كما يشير تاشتيكين إلى أن دمشق ليست في وضع يسمح لها باستقبال 3.5 ملايين سوري عائد، ومساهمة تركيا في إعادة الإعمار غير ممكنة، فهي لم تتمكن من التغلّب على آثار زلزال هاتاي (لواء اسكندرون) حتى الآن، وقدرتها الاقتصادية صفر. إذا كان الاتفاق سيغيّر الوضع في سوريا، فقد يقنع الأسد، لكن المعادلة في الوقت الحالي ليست مربحة لسوريا. وإذا سحبت تركيا قواتها وقامت بتفريق المجموعات المسلحة في إدلب، ستتمّ المصالحة، لكن تركيا ترفض ذلك بشكل غير عقلاني، ربما يكون الخوف من تسبب مجموعات المعارضة بمشاكل لتركيا في حال تفريقها هو السبب وراء ذلك.
ليس واضحاً حتى الآن مدى تجاوب أنقرة مع شرط دمشق القديم - الجديد للجلوس إلى طاولة المفاوضات والمتمثّل بانسحاب الجيش التركي من المناطق التي يسيطر عليها من خلال الفصائل المسلّحة التابعة له والمنضوية تحت مظلّة "الجيش الوطني".
ترى دمشق أنّها أبدت الليونة المطلوبة لإكمال المصالحة باستبدال مطلب الانسحاب بضرورة تحديد خارطة طريق لتنفيذ الانسحاب بضمانة روسية - إيرانية، وهي التي تسمّي الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية "احتلالاً".
في المقابل، تبدو تركيا مصرّة على مواصلة استغلال المجموعات المسلّحة السورية التابعة لها في مشاريعها في النيجر وجبال قنديل وشمال شرق سوريا، إضافة إلى خشيتها من انفجار قنبلة "القاعدة" الموقوتة في إدلب في وجهها. ولا يزال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يتحدّث عن جعل المعارضة شريكة للحكومة في دمشق، قائلاً إن سوريا ستكون أقوى بهذه الطريقة.