النهار

دمشق بين تعقيد وانقسام: هل حسمت خيارها مع أنقرة؟
المصدر: دمشق - النهار العربي
يحتاج تقييم الموقف الذي أعلن عنه الرئيس السوري بشار الأسد إزاء استعادة العلاقة مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان إلى الكثير من التدقيق
دمشق بين تعقيد وانقسام: هل حسمت خيارها مع أنقرة؟
صورة من الأرشيف للرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب أردوغان في دمشق في عام 2010 (أ ف ب)
A+   A-
يحتاج تقييم الموقف الذي أعلن عنه الرئيس السوري بشار الأسد إزاء استعادة العلاقة مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان إلى الكثير من التدقيق، قبل وضعه في خانة التشدّد أو الاعتدال. فهناك الكثير من الاعتبارات التي تدفع الرئاسة السورية إلى اللعب بين الحبال في هذه القضية، ولا سيما تناقض المصالح بين حليفيها الرئيسيين روسيا وإيران. فالأولى متحمسة لرؤية التطبيع بين البلدين يصل إلى خواتيمه السعيدة، بينما يغلب على الثانية الحذر، ولا تريد قطار التطبيع أن يسير بسرعة زائدة، بما يجعله يدهس أحلامها في حيازة الحصة الأكبر من كعكة النفوذ في سوريا. 
 
دور إيراني
كادت طهران تُجهض الجهود التي بذلتها موسكو للتقريب ببن دمشق وأنقرة، عندما فوجئت بالاجتماع الأمني الثلاثي الذي عُقد في العاصمة الروسية في أواخر العام 2022، قبل أن تنجح ضغوطها في إدخالها طرفاً رابعاً في هذه العملية. 
 
ويبدو أن مقتل القيادة الإيرانية ممثلة بالرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان، وكانا من أنصار التطبيع وقادا وساطة لتحقيقه، في حادثة الطائرة، وانتخاب قيادة جديدة لم تتضح سياستها تجاه الأزمة السورية عموماً، وملف التطبيع مع أنقرة خصوصاً، أرخى بظلاله على موقف القيادة السورية التي تشدّد في كل مناسبة على ضرورة التنسيق مع الحليف الإيراني.
 
وخلافاً للإلحاح التركي المدفوع بعوامل سياسية داخلية متفجّرة من أجل تحقيق تقدّم ملحوظ على مسار التطبيع، حتى أن الرئيس التركي تحدث عن توجيه دعوة للقاء الأسد في أنقرة أو في أي عاصمة أخرى، تتمسك دمشق بالهدوء وعدم العجلة في اتخاذ خطوات جدّية على هذا الطريق الشائك، وهذا تجلّى عملياً في استعادة الأسد شرط انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية للعودة إلى علاقات جمعت البلدين قبل عام 2011.
 
تناقض في الخارجية
يحسم التمسّك بهذا الشرط الانقسام الذي توسع داخل الجسم الديبلوماسي السوري خلال السنوات الماضية، حول طريقة التعامل مع قضية التطبيع مع أنقرة. هذا الانقسام سرّي ومكتوم، لا تسمح الأعراف الديبلوماسية السورية بالكشف عنه بسبب الرقابة الممارسة على أعضاء السلك الديبلوماسي، بحسب ما تقول مصادر خاصة لـ "النهار العربي"، مؤكّدةً أن قسماً كبيراً من سفراء الخارجية السورية وموظفيها، وبينهم رؤساء دوائر مركزية في الوزارة، يتبنون رأياً مفاده أن الطريق الأسهل للخروج من تداعيات الأزمة السورية يتمثل في تقديم تنازلات للجار التركي في سبيل استعادة العلاقات معه، ولو أدّى ذلك إلى تمزيق الورقة الكردية نهائياً، باعتبارها من أدوات الضغط التي أتقنت دمشق اللعب بها في مواجهة الأطماع التركية. 
 
ويرى البعض، أن من الطبيعي أن يتبلور مثل هذا الموقف المرن في كواليس وزارة الخارجية السورية، نظراً للنفوذ الروسي داخلها. غير أن هذا لا يكفي لتبرير ميل قسم كبير من موظفي الخارجية إلى هذا الخيار، إذ لا يمكن الاستهانة بالنفوذ الإيراني في وزارة الخارجية أيضاً.
 
ربما يمثل ما سبق جزءاً من التعقيد الذي تواجهه العاصمة السورية في حسم خياراتها الاستراتيجية. يجسّد بعض الأحداث الغامضة التي تشهدها سوريا الجانب العملي من هذا التعقيد، وهو ما تبدّى عملياً في مقتل لونا الشبل في حادث سير غامض، وهي المعروفة بقربها من موسكو وقيادتها السياسية، وما أعقبه من مقتل رجل الأعمال براء القاطرجي المعروف بقربه من إيران في غارة إسرائيلية. ومن شأن هذا التناوب في التصفية الجسدية بين شخصيات محسوبة على روسيا وأخرى محسوبة على إيران، أن يثير الكثير من المخاوف في العاصمة السورية بشأن المدى الذي يمكن أن تصل إليه حدود هذه التصفيات، وهل هناك سقف محدّد تقف عنده؟
 
سيناريو خطر
في ظلّ هذه التطورات، من غير المتوقع أن تتخذ دمشق موقفاً مرناً إزاء الإلحاح التركي بخصوص استعادة العلاقة بين البلدين، خصوصاً أن الرئيس السوري يدرك تماماً أن احتضان قطر وتركيا له في السنوات التي سبقت اندلاع الأزمة في عام 2011، ترك أشدّ الأثر سلباً في صورته، لأن كلا البلدين صارا من ألدّ أعدائه لاحقاً. لذلك، لا يريد أن يعطي أي انطباع بأنه مستعجل للوقوع في الخطأ نفسه مرّة أخرى.
 
علاوة على ما سبق، وقد يكون أهم مما سبق، تراقب دمشق من كثب مسار العملية الانتخابية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتزايد فرص نجاح الرئيس السابق دونالد ترامب بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال فاشلة. وتراهن دمشق على أن ترامب، على الرغم من فظاظته الإعلامية إزاء القيادة السورية، قد يستأنف عملية انسحاب القوات الأميركية من سوريا، ما يمكن أن تستغله دمشق من أجل إعادة القوات الكردية ("قوات سوريا الديموقراطية" (قسد)) إلى تحت عباءتها، الأمر الذي سيسبّب صدمة كبيرة للجانب التركي، وقد يشكّل ضغطاً كبيراً عليه يضطره إلى تسريع الامتثال لشرط الانسحاب من الأراضي التي تحتلها قواته في الشمال السوري. 
 
لكن، انتظار مثل هذا السيناريو لا يخلو من مخاطر كبيرة، قد تتعرّض لها دمشق، فقد أبدى ترامب في سنوات حكمه حرصاً كبيراً على تعزيز علاقته مع تركيا، كما يتبنّى مواقف متشدّدة إزاء إيران والقضية الفلسطينية التي تعيش مرحلة فاصلة منذ اندلاع "طوفان الأقصى"، ما لن تستطيع دمشق تفاديه، وربما تجد نفسها مضطرة لتحمّل عواقبه التي لا يعرف أحد طبيعتها وحدودها، لذلك قد لا تجد العاصمة السورية أفضل من اتباع السياسة التي اعتادتها: كسب الوقت بانتظار ظروف أفضل لعقد صفقات مع هذا الطرف أو ذاك.
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium