كادت مهنة النحاسين والنحاس العريقة التي تندرج ضمن التراث السوري الأصيل تنقرض خلال الحرب، لكن عاد السيّاح العرب لتنشيطها بشكل غير مسبوق، محيينَ فيها الرمق الأخير الذي كادت تلفظه مع اندثار مشتغليها وشيوخ كارها وحتى روادها من المواطنين.
وللنحاس قصته ومكانته في قلوب السوريين وبيوتهم، إذ يكاد لا يخلو بيت من النحاسيات بشتى أشكالها، من الأدوات المنزلية ومطاحن القهوة والثوم ودلّة القهوة العربية الشهيرة والترمس والفناجين والملاعق والشوك والسكاكين، وصولاً إلى الصمديات والديكورات المختلفة التي يتم توزيعها في مدخل المنزل وزواياه.
عرفٌ غيّرته الحرب
من الأعراف المتبعة في المجتمع السوري قبل الحرب أن تكون النحاسيات جزءاً من "مهر" العروس أو "جهازها"، لكن مع اندلاع الحرب وتتالي سنيّها تبدلت العادات والأولويات وصارت مقتنيات الناس تقتصر على أردأ أنواع المنتجات من مادة الألومينيوم لارتفاع أسعار النحاس من جهة، وندرته من جهة ثانية، وسيطرة الحرب عليه من جهة ثالثة، وتجييره نحو استخدامات أخرى أكثر إثراءً وبأشكال غير شرعية.
لكن، ظلّ استخدام النحاس غير شرعي سائداً منذ بداية الحرب ومستمراً حتى الآن، وذلك عبر تهريبه إلى لبنان وبيعه هناك بأسعار مرتفعة ليصار إلى استخدامه في مجالات متنوعة، إلا أنّ نشاطاً سياحياً عربياً متنامياً أعاد الطلب على النحاس في الأسواق من جديد وللغايات التي كان يستخدم لأجلها منذ قرون.
أنقذنا السيّاح العرب
عبد العزيز المؤذن، صاحب محل لبيع التحف النحاسية والشرقية يعمل في محله الذي تتبعه ورشة تصنيع وارثاً المهنة أباً عن جدٍ منذ 90 عاماً دونما انقطاع، يقول لـ"النهار العربي": "تعمل عائلتنا في النحاسيات منذ العام 1934، لنا اسمٌ كبير وسمعة في السوق، وكذلك الكثير من التجار وشيوخ الكار ومنهم من تفوق علينا في السمعة والجودة حيناً وغلبناه حيناً، وهذه حال طابع المنافسة، عدا الذين انسحبوا من الصنعة وهم الأكثرية خلال الحرب".
ويضيف المؤذن: "كانت هذه المهنة تدرّ أرباحاً خيالية تاريخياً، كان السياح الأجانب يُعجبون جداً بجمال المنتج السوري، ويشترون ويدفعون ويتدافعون وتشعر أنك في بورصة، وأحياناً كانت تحصل مزادات على قطع معينة داخل المحال، وكان من يشتري قطعة نحاسية أو شرقية مميزة يتباهى بها ويعرضها على الناس كما تتباهى امرأة حين تشتري طوق ذهب هو الأجمل في الأسواق".
لكنّ الحال تغيرت تماماً في الحرب، فلم يعد هناك سياح أو أي إقبال أو حركة على شراء المنتجات النحاسية، بل على العكس من كان لديه نحاسيات صار يعرضها للبيع، فابتلي السوق بركود قاتل تزامن مع هجرة الصانعين وشيوخ المصلحة حتى كادت هذه المهنة تبدو كأنها لن تعود للحياة يوماً.
ويردف المؤذن: "في الأعوام القليلة الأخيرة حدثت طفرة مفاجئة مع فتح الحدود وعودة الزوار العرب إلى سوريا، وبغض النظر إن كانت الزيارات دينية أو طبية أو عائلية أو غير ذلك، ما من زائر لدمشق إلا وسيزور مدينتها القديمة ويرى نحاسياتها الصامدة، وتحديداً تزايد الطلب في الأشهر الأخيرة، إذ فجأة امتلأ البلد بسيارات خليجية فانتعش سوقنا عبر الإخوة الكويتيين والإماراتيين والخليجيين عموماً مع العراقيين والأردنيين واللبنانيين، والأخيرون هم الحاضرون دائماً في أسواقنا حتى في عزّ الحرب، والآن تبدو المهنة وكأنما عاد لها بريقها إلى حد ما".
أمراء حرب وأسواق سوداء
عبد العليم النحّاس يعتبر أيضاً واحداً من شيوخ كار تلك المهنة، ويؤكد حتى أنّ كنية عائلته مكتسبة من صنعتها النحاسية، وهي العائلة التي قدمت تاريخياً من الحجاز واستقرت إبان الدولة العثمانية في دمشق وشرعت تمارس هذه المهنة وتتقن فنونها وأدواتها وتحفظ أسرارها. وإذ أكد مجمل ما قاله المؤذن، أضاف أنّ الحرب لم تدمر النحاس كمهنة فقط، بل جاءت على معظم التراثيات، بما فيها الحرير والأنوال والصناعات اليدوية والأنسجة والخيوط وغيرها.
يقول النحاس: "كان العقد الفائت مأسوياً، لا بيع ولا شراء، قلّة هائلة في المادة الخام، أسواق سوداء، أمراء حرب يتاجرون بها لأغراض غير الزينة والتجميل، في ذلك العقد تركت وأسرتي البلد وسافرنا إلى مصر ولكننا لم نتمكن من بناء ما فعلناه خلال تاريخ طويل في سوريا، وكنا نعلم أننا عائدون في نهاية المطاف إلى بلدنا".
ويتابع: "سابقاً كان بيع قطعة أو تحفة يعني ثروة للبائع، لنترك النحاس جانباً، كان يأتي السائح الأجنبي ويشتري الراديو الذي عمره عقود بآلاف وآلاف الدولارات، عدا الغرامافون، وأيضاً ما نسميه في مصلحتنا الهاون الذي يستخدم لطحن الثوم عبر مقبض نحاسي أثقل من الوعاء أحياناً، وعملياً هو أداة زينة وليس موضع استخدام عملي، جاءت أيام ظننا فيها أننا سنقول لأولادنا تعلموا مهنةً جديدة، نحن آسفون أننا تشيخنا الكار وقتلته الحرب".
ويستدرك النحاس بالقول: "لكنّ كرماً إلهياً بث الروح في المهنة من جديد وأعادها جميلةً كما جمال السيّاح العرب الذين يقصدوننا اليوم كما كانوا قبل الحرب لنتمكن من العمل والإنتاج مجدداً، رغم وجود عثرات كثيرة تواجهنا، لكنها لا شك ستندثر، وإن عاد السيّاح الأجانب أيضاً فستعود سوريا لتقول كلمتها في جودة ما يمكنها أن تنتجه".
سرٌ من أسرار الحرب
النحاس حضر أيضاً كملف رئيسي خلال الحرب السورية، أفرز مئات أو آلاف العصابات التي امتهنت سرقته من كل مصادره وأماكنه وفي أكثر أماكن البنية التحتية خصوصية وحساسية.
هؤلاء اللصوص سرقوا النحاس من الكابلات الكهربائية التي تربط مجموعات الأبراج الكهربائية على امتداد الأراضي السورية، ولا زالوا يفعلون ذلك حتى اليوم بمنتهى الحرفية والدقة، فالخطأ الواحد في تفكيك كابل التوتر العالي الذي يشكل النحاس صلبه كفيل بالصعق القاتل الفوري، لكنّ العصابات تمرّست في الأمر.
تلك العصابات تجاوزت سرقة الكابلات من مناطق النزاع والمعارك، فدخلت المدن الآمنة والأحياء والقرى والبيوت أيضاً، سحبت الأسلاك النحاسية الكهربائية من الجدران، وحصل كل ذلك يوم كانت سماء سوريا مسرحاً لذخائر لا تتوقف، أما المدن الآمنة فلا تزال تُسرق حتى الآن.
وفي هذا الإطار لا تصعب متابعة صفحة وزارة الداخلية السورية على "فايسبوك"، ليصدم المتابع بعدد العمليات التي تجريها الوزارة وتلقي فيها القبض على سارقي النحاس الذين حوّلوا الأمر إلى بعد وطني يكتسب صفة التهديد الأمني المباشر للموارد المركزية للدولة، إذ إنهم سرقوا شبكات الكهرباء والهاتف ودمروا ما تبقى من البنية التحتية.
جرأة غير مسبوقة
قبل بضعة أشهر وصلت الجرأة وعدم الاكتراث ببعض اللصوص إلى أن شكلوا عصابة من 37 شخصاً أقدموا على واحدة من أخطر السرقات في تاريخ الحرب، إذ سرقوا 36 كيلومتراً من الكابلات الكهربائية بوزن إجمالي يعادل مئة طن، وبتكلفة تقديرية تعادل نحو 300 ألف دولار أميركي، وذلك في منطقة ملاصقة لدمشق تحتضن "محطة دير على الحرارية"، ما دفع السوريين ليصفوا الحادث المهول بـ"سرقة القرن".
إجراءات داخلية وبيعٌ إلى لبنان
هذه الممارسات التدميرية للبنية التحتية، حملت مجلس الشعب على بحث استصدار تشريع قانوني حازم يجرّم هذه الأعمال بمدة سجن تصل إلى عشر سنوات والتغريم بأضعاف قيمة المسروقات.
وغالباً، لا تحاول العصابات التي تحصل على النحاس وتقوم بتذويبه بيعه في السوق السورية لتجنب مخاطر محتملة وقلّة سعره النسبية، بل تقوم ببيعه نحو لبنان عبر المعابر غير الشرعية لارتفاع سعره هناك وتشعّب الطلب عليه وتنوّعه، إذ يباع كيلوغرام النحاس من سوريا إلى لبنان بنحو 5 دولارات أميركية، وهناك يجري استخدامه في أشياء متعددة من بينها الإلكترونيات والرقائق والصفائح والذخائر وبعض الأمور العسكرية والإنتاجية والتصنيعية، فضلاً عن الاستخدامات المدنية الواسعة، وتلك معلومات حصل عليها "النهار العربي" عبر مصادر أمنية متقاطعة.
"توجيهاتنا صارمة"
مصدر مطلع في الأمن الجنائي أوضح لـ"النهار العربي" تلقي تعليمات مكثّفة وواضحة بالتعامل الآني والفوري والحازم مع أي عصابة محتملة أو مفترضة أو متورطة أو لها أعمال تتعلق بالنحاس، سواء أقدمت على السرقة أم لا تزال تحضّر للموضوع عبر المتابعة اللحظية وبالاستفادة من المعلومات الأمنية التي تصل بانتظام عبر أساليب متنوعة وأشخاص متعددين.
يقول المصدر: "ملف النحاس بدأ يتخذ شكلاً يمس الأمن القومي، وخصوصاً بعد سرقة مئة طن في وضح النهار وفي منتصف الظهيرة وخلال وقت قياسي وبأسلوب احترافي للغاية، هذه السرقات الممنهجة تؤثر على كامل المنظومة الكهربائية وساعات التقنين في البلاد، والأخطر هو تمدد هذه العصابات لتسرق النحاس من الشبكة الهاتفية لتقوم بتدمير ما تبقى منها أسوة بما فعلته بالشبكة الكهربائية".
المصدر أكد امتلاك الأمن الجنائي زمام المبادرة والتوجيهات الصارمة والمباشرة بعدم التهاون والتحرك الفوري بعيداً عن الروتين والبيروقراطية في مواجهة أي عصابة أو فرد يمتهن ذلك النوع من الأعمال، مؤكداً أنّه رغم ذلك هو الآن بأمسّ الحاجة لمعونة كاملة من جميع أفراد المجتمع الذين تدخل العصابات أحياءهم وتسرق منها الكابلات الكهربائية جهاراً نهاراً.
ويختتم المصدر كلامه بتأكيد رسمي أنّ تلك العصابات لا تلقى أي دعم أو تبعية من أي جهة مدنية أو عسكرية، وهو ما يوسّع صلاحيات جهازه في إلقاء القبض على أي متورط، مستشهداً بعدد الحالات المقبوض عليها والمنشور عنها في منصاته الرسمية بكل وضوح وشفافية.