تنتشر عدادات النقود بشكل متزايد في سوريا، ويكاد لا يخلو سوبر ماركت أو مطعم أو أي مؤسسة كبيرة أو متوسطة منها.
انتشار تلك العدادات جاء بفعل التدهور اليومي المستمر في قيمة الليرة السورية والارتفاع الكبير في معدل التضخم وفقدان العملة الوطنية قيمتها، إذ هبطت أمام الدولار منذ بداية الحرب حوالى 300 ضعف. ففي عام 2011 كان الدولار الأميركي الواحد يساوي 47 ليرة، والآن وصلت قيمة الدولار إلى 15 ألف ليرة.
تضخم غير مسبوق
في ظل التضخم غير المسبوق تاريخياً في سوريا، صار شراء أبسط الأشياء يتطلب حمل كميات كبيرة من النقود تصل إلى رزم عدة، حتى لشراء وجبة طعام جاهزة عادية أو علبة دخان أو مشروب، أو أي شيء آخر.
أما إذا كان الأمر أكبر من ذلك كشراء سيارة قديمة عمرها 40 عاماً مثلاً، فإنه يتطلب حقائب كثيرة مليئة بالنقود، فتلك السيارة قد يتجاوز سعرها 5 آلاف دولار في سوريا، أي 75 مليون ليرة، ما يعني أكياساً من المال.
عدادات في كل مكان
تلك العدادات الإلكترونية التي تغزو المحال تسهّل عملية عدّ النقود المدفوعة والكثيرة لقاء شراء أبسط الأشياء، علماً أن هذه الظاهرة لم تكن موجودة سابقاً إلا في سياق عمل الشركات الكبرى والمصارف ومحال الصيرفة. وما زاد الطين بلّة هو أنّ أكبر فئة مالية نقدية موجودة في الأسواق هي ورقة الـ5 آلاف ليرة سورية، والتي تعادل ثلث دولار، وتلك معضلة يواجهها البنك المركزي في سبيل اتخاذ قرار بطبع أوراق نقدية من فئات أعلى وأثرها على الاقتصاد السوري، وفي هذا الشأن يبرز رأيان اقتصاديان، أحدهما يشجع الفكرة بالمطلق، والآخر يحذر من أنّ ذلك الأمر سيكون إعلان وفاة نهائياً للاقتصاد الوطني.
ولتوضيح حجم ما يجب على السوري حمله في جيوبه، يقاس ذلك على الدولار الواحد الذي صار يعادل سعر صرفه حمل 30 ورقة من فئة 500 ليرة مثلاً (وهي من بين أكثر الأوراق النقدية توافراً في الأسواق)، وكمثالٍ آخر فإنّ سعر كروز دخان مالبورو (10 علب) يبلغ حوالى 500 ألف ليرة أي 250 ورقة من فئة 2000 ليرة أو 500 ورقة من فئة 1000 ليرة أو 1000 ورقة من فئة 500 ليرة، ما يعني كيساً كبيراً يحوي أوراقاً مالية تبدو بلا قيمة.
ما بعد الانفجار
علي شربجي، صاحب أحد محال الوجبات الجاهزة الصغيرة في دمشق، يقول لـ"النهار العربي"، إنّ الأمور الاقتصادية وصلت إلى مرحلة ما بعد الانفجار في كل شيء، وإنّ العملة التي تمرّ من بين يديه يومياً جيئة وذهاباً أصبحت بلا قيمة.
ويضيف: "بمجرد أن نفتح في الصباح نكون قد حضّرنا سيخ الشاورما الذي يبلغ ثمنه 15 مليون ليرة (ألف دولار) إن كان وزنه مئتي كيلوغرام، وهذا وزن عادي في المبيع النشط، وفوقها أجور المحل والعاملين والخدمات وغيرها، فلا يمضي نهار من دون دفع 30 مليون ليرة (ألفي دولار)، بغض النظر عن أنّه في النهاية هناك ربح، ولكنني أتحدث عن أرقام مهولة في سوريا وفي الوقت ذاته هي مجرد أوراق لشراء أشياء لا تستحق كل هذه الرزم المالية".
ويوضح شربجي: "وسطياً ليشتري الزبون من محلنا فروجاً مع مرفقاته سيدفع 250 ألفاً (16 دولاراً)، وهو بمقدار راتب الموظف تقريباً، هذا الرقم إن عدّه المحاسب باستخدام يديه فسيضيع نصف النهار، لذلك اليوم كل المحال تضع النقود في العدادات".
حقائب من النقود
جان دلّا صاحب مكتب لبيع السيارات في دمشق، صار يستعين بالعدادة النقدية الإلكترونية، لكنّه فعلياً يستعين بأكثر من عدادة، ويشرح بقوله: "اليوم ثمن السيارات الكورية المستعملة والقديمة نسبياً هو 20 ألف دولار في المتوسط وصولاً إلى 50 ألف دولار وأحياناً أكثر، ونقبض ثمنها بالعملة السورية، لو كنت سأعد بيدي أنا مع الموظفين في المكتب فسنحتاج عاماً كاملاً، لذا نشغل مجموعة عدادات في وقت واحد وتستغرق تلك العدادات السريعة ساعات طويلة أيضاً".
ويتابع: "قبل الحرب كان ثمن السيارات بضع مئات من الآلاف القليلة، كنا نعد النقود سريعاً وينقضي الأمر، كان ثمن سيارة بيجو 206 في الوكالة 300 ألف ليرة، أما اليوم فيأتينا الزبون حاملاً أكياساً وحقائب من النقود التي تكاد تملأ المكتب".
العدادة تهين النقود
يقول أبو ناصر صاحب ميني ماركت في دمشق إنّه حاول كثيراً المقاومة قبل شراء عدادة نقود إلكترونية وكان ثمنها مئة دولار، اضطر لشرائها بعدما بات أقل زبون يدخل محله يدفع مئة ألف ليرة (7 دولارات) مقابل أشياء بسيطة، ويرى أنّه حتى عدّ ذلك المبلغ صار مرهقاً له.
يضيف: "لولا العدادة لخسرت نصف زبائني، لن ينتظر أحد حتى أنتهي من العد اليدوي لكلّ زبون بدوره، سيملّ الناس من الانتظار، العدادة نفسها في سرعتها تهين النقود وهي تحصيها".
حلول متاحة
"النهار العربي" تحدث إلى الأكاديمي في الاقتصاد ملهم دربولي، الذي يشغل حالياً منصب مدير فرع مصرف التسليف الشعبي الحكومي، بشأن جوانب اقتصادية متعددة تتعلق بالواقع الراهن للناس وما آلت إليه أحوالهم في ظلّ التضخم وسعر الصرف وقيمة العملة والعدادات.
يوضح الدربولي أنّ الشأن الاقتصادي أصبح فعلاً أبرز أحاديث الشارع والشغل الشاغل للناس في كل وقت، ويتقدم تلك الأحاديث سعر الصرف وضعف الدخل والقوة الشرائية وارتفاع الأسعار والتضخم الحاصل نتيجة سنوات الحرب والحصار الطويلة.
وقال الدربولي: "هناك هاجس كبير لدى الصناعيين والتجار حول استقرار سعر الصرف، ومطالب بهيكلة الإجراءات المعقدة والمرتبطة بالاستيراد والتصدير، كذلك الأعباء المالية والضرائب الحكومية، وفي الوقت ذاته هناك العديد من الحلول لمعالجة الأوضاع الاقتصادية الحالية، ومن وبين الحلول وأولها معالجة واقع التضخم، إذ إنّ زيادة سرعة دوران عجلة الإنتاج يمكن أن تؤثر سلباً على المدى القصير على القدرة الشرائية، ولكن على المدى الطويل ستخدم سعر الصرف من خلال زيادة الطلب على الإنتاج المحلي وتسهيل إجراءات انسياب هذا المنتج إلى الخارج".
أسباب قاهرة
ويشرح مدير المصرف بعضاً من أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا الاعتصار الاقتصادي الخانق، ومن بينها انخفاض إنتاج سوريا من 380 ألف برميل نفط قبل الحرب إلى 13 ألف برميل نفط الآن، ومن 18 مليون متر مكعب من الغاز إلى 7 ملايين متر مكعب، وانخفاض الناتج الإجمالي المحلي من السلع والخدمات إلى أكثر من 70 في المئة، والإنتاج الزراعي أيضاً أكثر من 70 في المئة، وانخفاض القطع الأجنبي، والإفراط في إنتاج القطع الوطني لتمويل الموازنة العامة للدولة، وخسارة عائدات قطاع السياحة التي كانت تقدر بـ4 مليارات دولار سنوياً.
عملة جديدة
وحول فكرة طباعة عملة من فئات جديدة أعلى من الموجودة حالياً، يرى دربولي، بحكم إدارته واحداً من أبرز فروع المصارف الرسمية المعنية بالتماس المباشر مع مختلف شرائح المواطنين، أنّ الأمر متاح وضروري لسهولة الاستخدام ولن يكون لذلك أثر على الأسعار أو الاقتصاد، حيث يمكن للدولة أن تفعل ذلك بقدر محسوب.
ويوضح: "يكون ذلك بضرب ناتج الإنتاج الوطني في السنة بسرعة دوران العملة، ما ينتج كمية العملة اللازمة في كل الفئات مقارنة بالفئات التي يجب أن تتلف من العملات القديمة، وأعتقد أنّه لا بد الآن من الاستغناء عن بعض الفئات التي كانت متداولة لصعوبة تخزينها واهترائها ومشكلات تداولها بين الناس، وهذا ما يمكن لحظه مباشرة في محطات الوقود ومكاتب العقارات والسيارات والصاغة، وهؤلاء أصبحوا لا يستخدمون العدادة النقدية، بل الميزان الرقمي لوزن العملة لا عدها، والأمر هنا يترك قطعاً للبنك المركزي لاتخاذ القرار".