النهار

مجانيّة الطّبابة في سوريا "كذبة" والمستشفيات الخاصّة ليست جمعيّات خيريّة
دمشق-طارق علي
المصدر: النهار العربي
يواجه الأطباء السوريون كل يوم تقريباً معضلة أخلاقية في المستشفيات الخاصة، في ظلّ ندرة المستشفيات العامة التي دمرت الحرب معظمها، وعجز ما بقي منها عن تأمين الأجهزة الحديثة والمتطلبات الرئيسية للعلاجات الطبية. تلك المعضلة تظهر على وجه الخصوص حين يصل مريض على وشك الموت إلى أحد المستشفيات الخاصة، مصاباً بجلطة قلبية أو دماغية، أو جريحاً في حادث سير أو عمل.
مجانيّة الطّبابة في سوريا "كذبة" والمستشفيات الخاصّة ليست جمعيّات خيريّة
الاستشفاء بات صعب المنال في سوريا
A+   A-
يواجه الأطباء السوريون كل يوم تقريباً معضلة أخلاقية في المستشفيات الخاصة، في ظلّ ندرة المستشفيات العامة التي دمرت الحرب معظمها، وعجز ما بقي منها عن تأمين الأجهزة الحديثة والمتطلبات الرئيسية للعلاجات الطبية. تلك المعضلة تظهر على وجه الخصوص حين يصل مريض على وشك الموت إلى أحد المستشفيات الخاصة، مصاباً بجلطة قلبية أو دماغية، أو جريحاً في حادث سير أو عمل.

تلك الحالات تتطلب على الفور إجراءات مركزة وسريعة ودقيقة لتلافي فقدان المصاب حياته، فإن كان الحديث عن الأزمات القلبية فإنّ المريض في الغالب سيحتاج تركيب شبكات شريانية أو بطاريات قلبية أو منافيخ طبية وغيرها، وتلك الإجراءات تكلف عشرات الملايين من الليرات السورية.

علاجٌ يعجز المريض عن ثمنه
في الحالات القلبية العنيفة قد يحتاج المريض لنحو خمس شبكات بحسب قول أطباء لـ"النهار العربي"، وتلك الشبكات سيتخطى ثمنها ألفي دولار، وهذا رقم مهول نسبة إلى الدخل الشهري لأيّ سوري في القطاعين العام والخاص. وأحياناً يتطلب الأمر عدداً أقل من الشبكات، وبمطلق الأحوال لن تقل تكلفة الشبكة الواحدة عن 500 دولار، وحتى هذا الرقم كبير أيضاً. ولتقريب النسبة في هذا الموضوع، فإنّ 500 دولار هي مجموع مرتب الموظف الحكومي لعامين كاملين.

وإذا احتاج المريض لبطارية فإنّ سعر أرخصها سيكون ألفي دولار وأغلاها 25 ألف دولار، ومفارقة السعر تلك تأتي من جودة البطارية نفسها ونوعيتها وشكل تصنيعها وديمومتها وبلد منشئها وكفاءتها. ومن البديهي أنّ الجميع يلجأ لتركيب الأرخص، باستثناء حالات قليلة، كمثل حالةٍ روى عنها جراح القلبية الطبيب بسيم رعد لـ"النهار العربي" حول تمكن مريض لديه من تأمين بطارية بسعر تخطى 20 ألف دولار، وكان ذلك المريض من الأشخاص المقتدرين، خلاف معظم السوريين.

إنسانية الطبيب في مواجهة مهنته
عن تلك المعضلة ما بين الموقف الإنساني والمهني للطبيب في علاج الفقراء الذين كادوا يصلون إلى مرحلة الموت لأسباب مختلفة وجرى إسعافهم إلى مستشفيات خاصة، تحدث إلى "النهار العربي" أمين سر نقابة الأطباء الفرعية الطبيب محمد دلّة الذي يدير واحداً من أكبر المستشفيات الخاصة في سوريا.
 قال دلة: "قد يعتقد أنّ مصاب القلب يصل إلى المستشفى في حالة الجلطة وهو يموت، وذلك في الغالب اعتقاد خاطئ حتى مع حاجته الماسّة لتركيب شبكات أو غيرها، ولكن هناك خيارات طبية في الملف القلبي وغيره هي العلاج المحافظ السريع، أي العلاج الذي يوصل المريض إلى مرحلة الاستقرار الأولي ومن ثمّ يكون هناك وقت يطول أو يقصر لمناقشة بقية الإجراءات، وهذا ما يجري بحثه مع ذوي المريض، لا سيما أنّ المعدات الخاصة من شبكات وصفائح وأسياخ وغيرها يشتريها المستشفى من شركات طبية ولا يمتلكها في الحالة العامة".
وأضاف الطبيب دلة: "عموماً تلك الإجراءات الأولية غير مكلفة ومتاحة ما لم يتم شراء معدات خارجية، وبعد إسعاف الحالة جزئياً يجري إبلاغ أهل المريض بالحالة والتكلفة بالتفصيل، إضافة إلى تكلفة الإقامة في المستشفى، وحينها يعود القرار لهم في نقله إلى مستشفى حكومي أو إبقائه لدينا وقدرتهم على شراء المعدات التي سيتم تزويد جسد المريض بها".

الخيار لذوي المريض
ذلك الموقف من التخيير كثير التكرار كونه أصبح عرفاً عاماً في السياق الطبي، ففي آذار (مارس) الفائت نقل الشاب محمد الشمالي والده إلى أحد المستشفيات الخاصة إثر إصابته باحتشاء في عضلة القلب، أجرى المستشفى كل الإسعافات الأولية، ثم أبلغ الشاب أنّ والده لديه شريان مُغلق ويحتاج إلى تركيب شبكة.
قال الشاب: "علمت لاحقاً أنّ وزارة الصحة تلزم كل المستشفيات باستقبال الحالات الطارئة بمختلف أنواعها، فيما لا تلزمها بتكبد مصاريف تتخطى إسعاف الحالة، أبلغني الأطباء بالحالة وتكلفة تكملة العلاج وتركوا الخيار لي، وكان الخيار الوحيد أمامي هو نقل والدي إلى مستشفى حكومي لئلا أتكبد مصاريف إقامة إضافية في غرفة العناية، وفي مستشفيات الحكومة كذلك الأمر عليك أنت أن تشتري الشبكة وغيرها".
وتابع: "بعت ذهب زوجتي لأتمكن سريعاً من شراء شبكة وتركيبها لوالدي وإنقاذه من أزمات مستقبلية قد تكون قريبة جداً، وللإنصاف فإنّ ذلك المستشفى الخاص أمام فقر حالي وسوء وضعي لم يتقاض أجور ما نفذه من إجراءات طبية".
 

ليست جمعيات خيرية

هاشم عادل، طبيب كان يشغل قبل سنوات منصب مدير مستشفى خاص آخر، تحدث أيضاً إلى "النهار العربي" حول إجراءات كانوا يقومون بها ويتغاضون عن تكاليفها بقوله: "الجميع يعلم أنّ معظم السوريين لا يملكون ثمن رغيف الخبز، والطبيب هو جزء من هذا النسيج. نعم هناك أطباء جشعون للغاية وبصورة جنونية، ولكن أيضاً هناك أطباء إنسانيون فوق المعقول".
 وأضاف: "في الكثير من الأحيان كنا نتغاضى عن أجور رئيسية من المرضى الذين يصلون إلى قسم الطوارئ، كأجر تصوير الرنين المغناطيسي الذي يكلف مع الإبرة الظليلة نحو مئة دولار، وكذلك أجر الطبقي المحوري الذي يصل متوسط سعره إلى 30 دولاراً". وأوضح: "كان ذلك يشمل الشريحة الأشد فقراً والأكثر عجزاً عن دفع قرش واحدٍ، وكذلك تصوير الأشعة وغيرها، فيما كنا نتقاضى من آخرين تلك الأجور إذا كانوا قادرين على دفعها، وعلينا أن نتذكر جيداً أنّ المستشفيات الخاصة في النهاية هي مؤسسات ربحية لا خيرية، وإن كانت كلّ خدماتها مجانية فستفلس في نهاية المطاف، لذا قليلٌ منا وقليل من المواطن، وفي هذا السياق أحياناً كان يدفع ذوو المريض جزءاً من المبلغ ونحن نتولى البقية، وطبعاً ذلك يشمل فقط الإجراءات داخل المستشفى".

الحكومة هي المسؤولة

الطبيب الجراح جهاد فهد أيد كلام زميله، وأضاف إليه أنّ المساءلة يجب أن توجه إلى الحكومة التي رغم انتهاء حرب المدن الرئيسية لم تعمل على تدعيم القطاع العام الطبي وظلّت تضطر المواطن للجوء للمستشفيات الخاصة، والأخيرة بطبيعة الحال لا يمكن أن تقدم خدماتها مجاناً فهي مشروع استثماري يهدف إلى الربح الوفير.

وأكد فهد "جشع الكثير من الأطباء" مستنكراً التسعيرة التي يتقاضونها، مقابل أطباء عادوا من الخارج ليقدّموا خدمات شبه مجانية للمرضى، وآخرين تبرعوا من أموالهم لإجراء عمليات جراحية.
وتابع: "أمام انهيار نساء وأولاد على أبواب غرف العمليات وجدت نفسي مضطراً أكثر من مرّة إلى التنازل التام عن أجري، وفي مرات أخرى كنت أتبرع بإتمام العملية بمتطلباتها الخارجية من حسابي الخاص، حصل ذلك مرّات، ولكن هل ذلك منطقي؟ بالطبع لا، فالطبيب هو فرد من هذا الشعب، ولو تبرعت مرة واحدة في كل شهر فقط ففي نهاية العام سأبيع سيارتي، وفي العام الذي سيليه سأبيع منزلي، الحل أولاً وأخيراً لدى الحكومة".
 


الاختباء وراء الإصبع
تباهي سوريا على الدوام بمجانية التعليم والطبابة، بل في كل مناسبة، لكنّ ذلك الأمر ليس حقيقياً على الإطلاق، فهناك عمليات جراحية تكلف 10 آلاف دولار، وأخرى 50 ألف دولار، ومضمار الأرقام هنا هو خوارزمية واسعة للغاية، وفي كل الأحوال لا تبرع المستشفيات الحكومية في إيجاد آلية تتخطى متطلبات الطبابة غير المكلفة لتشمل الأجهزة التي يحتاجها جسم المريض، من مفاصل صناعية مروراً بقضبان تثبيت الفقرات وصولاً إلى الشؤون القلبية، من دون نسيان شبه انعدام توافر جرعات العلاج الكيماوي لمرضى السرطان الذين يشترون الجرعة من السوق السوداء بمئة أو مئتي دولار، بحسب نوعها.

عمليات بالدين
أحد الأطباء، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، وافق على إجراء عمليات عدّة على حسابه الخاص على أن تكون تكاليفها ديناً على ذوي المريض، ولكنّه لم يتمكن من تحصيل قرش واحد لاحقاً، باستثناء شخصين قسّطا المبلغ على الأمد الطويل ما جعل خسارته أقرب إلى كامل التكلفة بسبب فروق سعر الصرف وانهيار قيمة العملة المحلية المتسارع.

وقال: "حين تكون أمام سيدة كبيرة في العمر تكاد تنحني أمامك، وترجوك المساعدة مقابل إعادة المبلغ عبر دفعات شهرية، لا تفكّر بتصديقها أو تكذيبها، لا تفكر إلّا في أنّ ولدها بين الحياة والموت، وأنت في نهاية الطريق إنسان ولست آلة سحب نقود، وكثيراً ما يتكرر هذا الموقف في الحوادث المؤسفة".
وأضاف: "إدارة المستشفى تتملص فوراً، وهذا منطقي، فكل المستشفيات الخاصة، أو معظمها، تقوم على نظام شراكة الأسهم بين عشرات الأطباء، وفي أفضل الأحوال يوافقون على تكبّد تكاليف الإسعافات الأولية، أما بقية الأمور فتترك لنا، إما أن ندفع أو نطلب من الأهل الدفع مباشرة، أو تجرى تسوية كما شرحت سابقاً، وهي تسوية لا تقوم على الصدق في أحيان كثيرة".

اقرأ في النهار Premium