بعد أسابيع من افتتاح معبر أبو الزندين بين مناطق سيطرة القوات الحكومية السورية ومناطق سيطرة الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا في شمال حلب، تم الإعلان عن خطوة جديدة تصب في خانة تهيئة الأرضية المشتركة لاستكمال مفاوضات المصالحة بين أنقرة ودمشق: إنشاء قاعدة عسكرية في مدينة عين العرب ذات الأهمية الاستراتيجية لكل أطراف الصراع في سوريا، الداخلية والخارجية.
ويدل تعاقب هذه الخطوات على أن الوساطة الروسية بين سوريا وتركيا دخلت في مرحلة بناء الثقة بين الطرفين، بهدف التركيز على القواسم المشتركة التي تلبي مصالحهما، بعيداً عن الملفات الخلافية التي لن يمكن حلها إلا بعد الجلوس على طاولة المفاوضات، وهذا ما تسعى موسكو إلى تحقيقه على الرغم من العقبات التي لا تزال تعرقل جهودها.
وقبل أيام، استكملت القوات الروسية والحكومية السورية إنشاء قاعدة عين العرب بريف حلب الشمالي الشرقي، في منطقة قريبة من الحدود السورية - التركية، وفق ما أعلن نائب رئيس مركز التنسيق الروسي في سوريا العقيد البحري أوليغ إيغناسيوك في بيان، لم يتطرق إلى الهدف من تأسيس القاعدة العسكرية. لكن وكالة "تاس" الروسية للأنباء ذكرت أن الهدف منها "مراقبة نظام وقف العمليات القتالية بين الأطراف المتنازعة".
وقف التوغل
تخضع عين العرب لسيطرة ملتبسة منذ انسحاب القوات الأميركية منها في عام 2019، حيث أصبحت ممسوكة أمنياً من "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) التي تعتبر المدينة عاصمتها الرمزية، لأن معظم سكانها من الأكراد. لكن، دخلت إليها القوات الروسية والسورية في إطار اتفاق مع "قسد" للحد من التوغل التركي في المنطقة، ولنزع الذرائع من يد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومنعه من تنفيذ تهديده باجتياح المدينة أكثر من مرة.
يأتي إنشاء هذه القاعدة العسكرية، وفق بعض المراقبين، في السياق ذاته الذي فرض إخضاع المدينة لسيطرة قوات متعددة وغير متفقة بعضها مع بعض في التوجهات الاستراتيجية، كون "قسد" من أبرز حلفاء القوات الأميركية التي تسعى كل من دمشق وموسكو وأنقرة لإخراجها من سوريا. ويعتقد هؤلاء أن إنشاء القاعدة يثني تركيا عن القيام بأي عملية عسكرية جديدة، لتغيير خرائط السيطرة وتعديل موازين القوى.
ويبدو مصير العملية العسكرية التركية المديدة ضد القوات الكردية في سوريا والعراق غير محسوم تركياً. ففي حين أعلن الرئيس التركي في الشهر الماضي عن قرب انتهاء هذه العملية، في رسالة عدّها الجميع إيجابية تزامنت مع دعوته الرئيس السوري بشار الأسد إلى اللقاء، تحدث وزير الدفاع التركي يشار غولر عن استمرار العمليات التي تقوم بها القوات التركية، داخل الحدود وخارجها، لحماية "بقاء البلاد وشعبها".
وقال غولر: "لدينا القوة اللازمة لحماية بقاء بلادنا وأمّتنا ضد أصحاب الأطماع التوسعية في منطقتنا، والذين يرون في هذه الجغرافيا ميداناً لتنفيذ مخططاتهم القذرة".
روسيا وسوريا والأكراد
واجتمع وزير الدفاع التركي بقادة القوات المسلحة الاثنين، وانضم إليهم عبر تقنية "الفيديو كونفرنس" قادة الوحدات العسكرية التركية في البلاد وعبر الحدود، وحصل غولر على معلومات شاملة حول الأنشطة الجارية، وخصوصاً عمليات مكافحة الإرهاب خارج الحدود في شمالي العراق وسوريا، وأعطى تعليماته بناءً على تقييم مع قادة القوات والوحدات.
وأكدت صحيفة "الوطن"، المقربة من دوائر صنع القرار في الحكومة السورية، أن إنشاء القاعدة جاء بناء على اتفاق بين روسيا وسوريا والقوات الكردية، إلا أنها أبقت الباب مفتوحاً لتأويل الخطوة بأشكال مختلفة عبر تأكيدها أن إنشاء القاعدة موجه ضد السياستين الأميركية والتركية.
ونقلت الصحيفة عن مصادر خاصة قولها إن إنشاء القاعدة العسكرية السورية - الروسية المشتركة في عين العرب "يشكل تحولاً مهماً لفرض الاستقرار في أهم المناطق الاستراتيجية المتنازع عليها، ونزع فتيل التفجير عبر إبطال ذرائع وحجج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاحتلالها"، مشيرة إلى أن الغرض من تأسيس القاعدة هو منع إدارة أردوغان من احتلال عين العرب، التي طالما هدد وأركان إدارته باحتلالها لوصل مناطق نفوذ الجيش التركي في حلب مع مناطق شمال شرق سوريا، في الرقة والحسكة.
دلالات مهمة
وأعربت المصادر عن قناعتها بأن إقامة القاعدة العسكرية في مثل هذا التوقيت الذي يسوده التوتر يسهم في "طمأنة" إدارة أردوغان للحيلولة دون تنفيذ أعمال عدائية قد تنطلق من عين العرب إلى داخل الأراضي التركية، ما يساهم في توفير نوع من الحماية للحدود التركية في هذه المنطقة المضطربة، التي طالما شهدت قصفاً مدفعياً وجوياً من الجيش التركي باتجاه مدينة عين العرب ومحيطها، لاستهداف نقاط "قسد" العسكرية، ما أودى بحياة الكثير من السكان المدنيين.
واعتبرت "الوطن" أن لإنشاء قاعدة عين العرب "دلالات مهمة"، مشيراً إلى أن أنقرة طالبت دمشق دائماً، خلال عمليات التفاوض لإعادة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين، بنشر الجيش السوري على طول الحدود بين البلدين، والتي يسيطر الجيش التركي والفصائل التي يدعمها على جزء منها، وتمد "قسد" نفوذها على حدود مناطق أخرى شرق الفرات، ومن هنا تأتي أهمية القاعدة العسكرية السورية - الروسية المشتركة في عين العرب لمراقبة العمليات القتالية والحدود، وعلى مساحة كبيرة.