خلال الأعوام القليلة الماضية، كان الانتعاش النسبي للسياحة في سوريا لافتاً، خاصة بعد الجمود الذي أصاب هذا القطاع خلال عقدٍ كاملٍ من الحرب. لكنّ النهضة الجديدة اقتصرت بشكل شبه تام على السيّاح الخليجيين والعراقيين واللبنانيين، إلا في ما ندر.
الخليج والعراق ولبنان
الزيارات الخليجية المتنامية جاءت في الإطار المفهوم تاريخياً، وفق صلات القرابة التي تربط تلك البلدان مع سوريا عشائرياً من جهة، ووفق نظام التفاهمات السياسية وفتح الحدود تالياً بعد سنوات قطيعة مريرة من جهة أخرى. والأمر ذاته ينطبق على الشأن العراقي، وأكثر على اللبناني الذي سيكون مجحفاً القول إنّ زيارات أهله انقطعت خلال الحرب، ولكنّها قلّت كثيراً لتعود وتتنامى مالئةً شوارع دمشق وحمص ومدن أخرى.
هذه السياحة تقوم على جملة عوامل، متفرقة أو مجتمعة، فمنها ما هو ترفيهي محض بقصد قضاء إجازة الصيف والتمتع بشواطئ المتوسط والطبيعة السورية في المواطن الآمنة من البلاد، وقد يبادر إلى هذا النوع سياح من جنسيات مختلفة إضافة السوريين المقيمين في الخارج والوافدين لزيارة بلدهم ما بعد الحرب. وهناك أيضاً السياحة ذات الطابع الديني، وهي تشمل الأضرحة والمقامات المقدسة كالسيدة زينب في ريف دمشق والتي تشهد رحلات حج منتظمة، أو بهدف العلاج الطبي، إذ تظلّ سوريا رغم تردي الحال الطبي فيها أرخص بكثير في سبل العلاج من أي دولة مجاورة، لا سيما العلاج التجميلي وما يتعلّق ضمناً بطب الأسنان، مضافاً إليهما براعة من بقي من الأطباء.
حين تصير السياحة وبالاً
ومن البديهي أنّ واحداً من أكثر القطاعات التي تنشّط دورة رأس المال ويعتد بها في رفد الموازنة العامة لأيّ بلد هي السياحة لما لها من شأن ودور في تفعيل قطاعات "غافية" وتمرير موارد دخل إضافية تحرك قطاعات أخرى، ولكنّ هذه الحالة تبقى منطقية وفي إطارها السليم حين يكون البلد المستهدف للسيّاح قائماً بموارده الأساسية خارج ظروف الحرب وتفاصيلها.
إلا أنّ السياحة الخارجية باتجاه سوريا مثّلت وبالاً على السوريين أنفسهم، إذ إنّها أسهمت في ارتفاع أسعار كل شيء تقريباً، وفي مزيد من التضخم وانعكاس دورة رأس المال سلباً، فبعض الشواطئ السياحية وصلت أجور الليلة الواحدة في الشاليه فيها إلى حدود مئتين إلى ثلاثمئة دولار بعدما كانت تؤجر بدولارات قليلة رغم وقوعها في مناطق آمنة طيلة الحرب كالساحل السوري.
كذلك قفزت أسعار كل شيء يعنى السوري باستهلاكه باستمرار، ليغادر السائح مع نهاية الصيف تاركاً خلفه سوقاً ملتهب الأسعار يعجز السوريون عن الشراء منه.
السيّاح وسوق السيارات
من جملة الأشياء التي أسهم السيّاح في رفع أسعارها إيجارات السيارات، "النهار العربي" زار أكثر من مكتب سيارات لتبيان الأرقام التي تؤجر بها هذا الصيف، حيث بلغ إيجار سيارة من نوع "كيا فورتي 2011" نحو ألف دولار في الشهر، "هيونداي أفانتي 2010" 800 دولار، فيما سجلت سيارات من نوع "مرسيدس" و"بي إم دبليو" آلاف الدولارات وبالطبع كلّها تعود سنة تصنيعها لما دون 2011، وهو آخر عام استوردت فيه سيارات.
يتم تأجير تلك السيارات عبر احتجاز جواز السفر أو الهوية الشخصية على أن يقوم المستأجر بالبصم على سندات أمانة فارغة، وتمثل تلك الإجراءات ضمانة لصاحب السيارة التي يبلغ ثمنها عشرات آلاف الدولارات، وبالطبع يظلّ استئجارها أوفر بكثير من التنقل عبر المواصلات الخاصة أو العامة.
ثلاثة حلول
رنا عطوان تشغل منصب مدير الموارد البشرية في أحد البنوك الخاصة، تتحدث عن ذلك الأمر إلى "النهار العربي" قائلةً: "في هذا البلد إن قضيت عمرك تجني مرتبك فلن تتمكن من شراء سيارة، لذا هناك ثلاثة حلول أمام أي شخص، النقل العام وهو ما لا يتناسب بشرياً وإنسانياً مع كرامة أي شخص، وكذلك لا يتناسب مع اللباس الرسمي، والحل الثاني هو التكاسي التي قريباً ستصير تتقاضى أسعاراً كما الطيران الداخلي، لذا يبقى الحل الثالث الأفضل وهو استئجار سيارة متوسطة السعر".
وتضيف: "كانت هناك سيارات أجورها مئة ومئتا دولار، ثم يأتي السيّاح ويستأجرونها نفسها بألف دولار، ينتهي الموسم ولا يقبل التاجر بتأجيرها بالأرقام القديمة، ثم أمام استحالة أن يتمكن السوري من دفع هذا الرقم يتنازل التاجر، ولكن إلى أي حد يتنازل وقد اعتاد الربح الوفير والسريع؟ قد يتنازل إلى حد 500 أو 600 دولار منتظراً الصيف المقبل، وهكذا دواليك، لذلك يسبب السياح أضراراً مستديمة، يرحلون هم وتبقى آثارهم".
وفي الوقت ذاته، لا ترى رنا أنّ الحل في العزلة، بل بتنظيم السوق والسياحة والتدخل الحكومي لكبح الأسعار ومنح القطاعات المختلفة انتعاشاً يسمح فيه للسوري بمواصلة حياته دون التأثر بأي طارئ موسمي، وضمناً عدم اعتبار ركوب السيارة رفاهية محصورة بطبقة معينة.
وتتابع رنا: "الأمر نفسه في الشواطئ، في الصيف لا تعود الشواطئ لنا، الفقراء والمتوسطون يمتلكون شواطئهم من تشرين الثاني (نوفمبر) وحتى أواخر نيسان (أبريل)، ثم تلتهب الأسعار ويجن جنون أصحاب المنتجعات والشاليهات والمستشفيات والفواكه والعقارات والإيجارات والمطاعم وكل شيء".
السوق السوداء تزدهر
يعاني السوريون منذ سنوات طوال أزمة محروقات مزمنة، كانت خلاصتها قبل سنين أن يتم منح كل سيارة نحو 50 ليتر بنزين شهرياً في المتوسط (أوكتان عيار 90) وبسعر 40 دولاراً لمجمل الكمية التي لا تكفي معظم راكبي السيارات الذين يلجأون إلى السوق السوداء لشراء المادة، وفي تلك السوق تتوافر الكميات من دون أي مكافحة أو إجراءات رسمية ناظمة.
ذلك الوقود الذي ينتشر في الأحياء وعلى كل الطرق الدولية له مصدران، الأول يكون قادماً من لبنان، والآخر من محطات الوقود نفسها التي تسرق من الـ50 ليتر المخصصة لكل سيارة، ومن نافلة القول إنّ ذاك معلومٌ للجميع، وعلى رأسهم وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ومعها وزارة النفط.
تبيع محطة الوقود الليتر الواحد من البنزين ضمن المخصصات بحوالى 12 ألف ليرة سورية (0.80 سنت)، بينما يباع الليتر في السوق السوداء بسعر وسطي يقارب 18 ألف ليرة (1.2 دولار)، هذا في الأيام الطبيعية، أما في فصل الصيف والسياحة فتختلف أسعار تلك السوق تماماً.
في المواسم السياحية، كما الموسم الحالي قفز سعر ليتر البنزين الحُرّ من 1.2 دولار إلى حوالي 1.8 دولار بالمتوسط، وقد يقل أو يزيد بحسب المحافظة، ولكنّه بالمجمل كبّد سوريي الداخل اللاجئين إلى هذا السوق باستمرار مصاريف إضافية وكبيرة من دون أن يكونوا قد استفادوا مباشرة من آثار السياحة الإيجابية، فمن كان يشتري غالون البنزين من السوق السوداء بـ24 دولاراً صار يشتريه الآن بـ36 دولاراً، وسيظلّ هذا الحال مستمراً حتى دخول فصل الشتاء كما هو متوقع، مع عجز الباعة عن تثبيت السعر أمام غياب السيّاح ومحدودية دخل الموظف السوري.
شركات خاسرة
عمران الشاطر موظف في شركة سيارات تعنى بالتوصيل، وهي شركات تنامى ظهورها في السنوات القليلة الماضية، ويقوم أساس عملها على أن يُقدّم الموظف (السائق) سيارته ويتحمّل هو مصروف بنزينها مقابل نسبة يتقاضاها عن كل عملية توصيل، فيما تتولى الشركة تأمين الزبائن باستمرار.
يقول الشاطر: "في البداية كان العمل مريحاً ومربحاً، إذ إنّ البنزين كان أرخص وأجور النقل أعلى قياساً بالحال الآن، ولكن مع هذا الارتفاع المهول في أسعار البنزين صار إيصال الزبائن إلى وجهاتهم مع تقاسم الأجور مع الشركة إضافة لمصاريف الصيانة والإصلاح غير مربح إطلاقاً، لذلك قدّمت استقالتي، وصرت أؤجر سيارتي فتحقق ليّ دخلاً وفيراً".
السياحة والأمن القومي
مصدر في وزارة السياحة قال لـ"النهار العربي" إنّ عائدات السياحة في العام 2010 عشية اندلاع الحرب شكّلت ما مجموعه 14 في المئة من اقتصاد البلاد بواقع 8.4 مليارات دولار، إلا أنّ الحرب أجهزت بصورة شبه كاملة على القطاع السياحي ليتم لاحقاً تدارك ما يمكن تحصينه أو ترميمه مع دعايات ونشاطات وحملات استقطاب سيّاح، نجحت نسبياً، قياساً بضراوة ما مرّت به سوريا.
وحول تأثير السياحة السلبي يقول: "السياحة بصورة أو بأخرى ترتبط بالأمن القومي لأي بلد، وكذلك الاقتصادي والاجتماعي، ولذلك فعلى وزارات متنوعة أن تتضافر جهودها على صعيد إنجاح السياحة وتركها دون مفاعيل سلبية".
ويضيف: "إن تمكنت الوزارة من ضبط بعض الجوانب فإنّ بقية الجوانب، وهي مهمّة، فهي من مسؤولية جهات أخرى، كضبط عمليات الأسعار التي تقع على عاتق التموين، أو استجرار حصة السوري من الوقود، أو الجرائم والتعديات التي يعود اختصاص متابعتها لوزارة الداخلية، أو الإشكاليات التي تعنى بها وزارة الخارجية، وغير ذلك، فيما كل تركيزنا حالياً ينصب على عودة سوريا قبلة لسيّاح العالم لما فيها من آثار وقلاع ومواقع تاريخية لا مثيل لها في العالم رغم كلّ ما دمرته الحرب".