"تخرّجتُ منذ عامين من كليّة الهندسة الكهربائية، هل كان عليّ أن أنتظر مسابقة توظيف حكومية لأحظى براتب شهري لا يتخطى 20 دولاراً وبأسرٍ وظيفي يسرق من عمري أربعين عاماً حتى أتقاعد؟ بالتأكيد لم أسعَ ثانيةً واحدةً لوظيفة حكومية"، يقول المهندس نشوان عزيز لـ"النهار العربي"، وهو الذي اختار وظيفةً أخرى أبعد ما تكون عن تخصصه.
في سوريا يُعتبر الأطباء والمهندسون وأكاديميو الاقتصاد من نخب المجتمع، لكنّ المعايير تبدلت كثيراً خلال الحرب، بخاصة إذا ما نُظِر الى الأمر من زاوية أنّ المُياوم في أعمال نقل مواد البناء صار يجني أكثر بأضعاف من المهندس المشرف على المشروع حتى.
بحث نشوان مطوّلاً عن عمل في القطاع الخاص يُحقق منه دخلاً يعينه على إعالة أسرة مكوّنة من والدة وأخت صغيرة. معظم الأعمال كانت خارج تخصصه، وغالبيتها لم تكن تُحقق الدخل المطلوب ليؤمّن له ما دون الحد الأدنى من سبل استمرار المعيشة المقبولة.
راقب المهندس الأسواق طويلاً ولحظ تنامياً هائلاً في واحد من قطاعاتها، ألا وهو "عمال التوصيل في المطاعم وغيرها (الدليفري)"، وشجعه على الخوض في الأمر عثوره على الكثير من أقرانه ذوي التخصصات المهمة والمنخرطين في ذلك العمل.
مهمة بسيطة ودخل كبير
يقول نشوان: "قبل نحو عام قرأت إعلاناً لمطعم وجبات صغيرة في دمشق يطلب عمال توصيل، فوراً توجهت إلى المطعم وقابلت مديره الذي صدم بأني خريج هندسة وكان على وشك رفض توظيفي لهذا السبب، لكني شرحت له أسبابي ونجحت بإقناعه. وقتذاك كان في المطعم ستة عمال توصيل وأنا صرت السابع".
ويتابع: "المهمة بسيطة، يتلقى عامل الاستقبال الاتصالات ويوصيه الناس على الوجبة التي يريدونها وأنا بدوري أوصل الطعام إليهم، وجرت العادة أن يعود عامل التوصيل بثمن الطلب إلى المطعم ويحتفظ لنفسه بالمبلغ الإضافي الذي يمنحه الزبون، وبالطبع هناك زبون بخيل وآخر كريم".
ويضيف: "لاحقاً، أضحت الأمور أكثر تنظيماً، إذ صارت تحسب كلفة التوصيل بناءً على بعد المنطقة عن موقع المطعم، ووسطياً تكون أجور التوصيل نحو نصف دولار، وأيضاً وسطياً أقوم بإيصال نحو عشر وجبات يومياً، أي أجني في اليوم الواحد خمسة دولارات، ما يعني 150 دولاراً في الشهر، وهو رقم لا يحلم به أحد هذه الأيام، أو ببساطة هو يعادل مرتبات سبعة موظفين حكوميين مجتمعين".
وحين سؤاله عن ترك الاختصاص الذي لطالما حلم به، يجيب: "أيّ هندسةٍ في سوريا؟ في هذا البلد الحائز فيه شهادة كمن لم يدخل مدرسة، فأنا أجني 150 دولاراً شهرياً، وزميلي في التوصيل الذي لم يدخل جامعة يجني المبلغ نفسه!".
عمل للجميع
لا يبدو حال نشوان بأي شكل غريباً إذا ما قيس بالركود الهائل في سوق العمل الإنتاجي من مصانع ومعامل ومنشآت كبرى، ومن جهة أخرى، الوفرة الواسعة في مطاعم الوجبات الصغيرة الجاهزة ليتنامى باطّراد لافت عمل موظفي "الدليفري" الذين يحققون أرباحاً جيدة جداً، ليشهد سوقهم إقبالاً كبيراً على العمل الذي دفع مهندسين وأطباء في مراحل الدراسة ومعهم الكثير من أصحاب التخصصات الجامعية للانخراط في تلك المهنة التي تعينهم بمردودها على تخطي يومياتهم وإعالة أسرهم، وأحياناً مصاريف دراستهم نفسها.
طبيب و"دليفري"
جوان صابر، طالب في السنة الرابعة في كلية طبّ الأسنان، وفي كليته تلك كالكثير من الكليات الطبية يحتاج الطلاب مصاريف كبيرة كأثمان لمواد يستخدمونها في سياق دراستهم، ومع تقادم سني دراسته وعجز والديه الموظفين عن سداد تلك التكاليف اضطر لإيجاد عمل، وكان العمل الأقرب إليه هو التوصيل، لكنّ جوان وقع في إحدى المرّات في مأزق لم يكن متوقعاً لطالب ينظر إليه بعين التفوق المجتمعي.
يتحدث جوان إلى "النهار العربي" عن ذلك الموقف قائلاً: "في إحدى المرات طلب مني المطعم إيصال بضع وجبات إلى أحد المنازل بحي المزة في دمشق. كانت المسافة بعيدة عن المطعم فعلمت سلفاً أنّ صاحب الطلب سيمنحني مبلغاً جيداً، ولكنّ المفاجأة أنّ أصحاب الطلب لم يكونوا سوى مجموعة من زملائي في الكليّة، وبالطبع لم يُقصّروا بإبلاغ كل زملائنا بالحادثة حتى صار يطلق عليّ في الجامعة لقب طبيب ديلفري، وعانيت سخريةً لا مثيل لها".
لقمة شريفة
ويتابع الطبيب: "رغم ذلك لم أترك العمل، نعم، تألمت نفسياً وانعزلت في الجامعة وصرت أشعر بخجل كبير، حتى أنّ مدرّس إحدى المواد استدعاني ذات يوم إلى مكتبه ليناقشني ويخفف عني، ولن أنسى ما قاله يومها: يا بني أنا عملت ذات يوم في ترحيل الأنقاض من المباني حين كنت طالباً، واليوم أنا أرأس قسمك الدراسي، أنت تعمل بشرف، وهذه لقمة شريفة، دعك من أولئك الذين يسخرون منك لأنّ حياةً مريرةً تنتظرهم حين يخرجون من عباءة أهلهم الميسورين، أنت كمثل ملايين السوريين، وبإمكاني إيراد مئات الأمثلة عن كبار الناجحين في العالم بماذا عملوا قبل أن يصلوا إلى ما هم عليه الآن".
قد يكون كلام رئيس القسم هوّن فعلاً على جوان، لكن ما لا يمكن تهوينه عليه أن يكون في الصباح طبيباً وفي المساء سائق دراجة نارية متنقلاً بين منزل وآخر متمنياً في كل رحلة أن يكون "البقشيش" محرزاً.
بورصة الدجاج
تخرّج الشاب جلال إسماعيل قبل بضعة أعوام في كلية الاقتصاد، لم يترك طريقةً لإيجاد عمل في تخصصه، لكنه في كل مرّة كان يصطدم بطلب أصحاب العمل أن تكون لديه خبرة سابقة وسيرة ذاتية جيّدة تؤهله للعمل، ولطالما تساءل: كيف يبني سيرة ذاتية ولا أحد يوظفه من دون خبرة، وهذه حالٌ تكاد تكون عامة في سوريا، إذ يطلب من مجمل المتخرجين تقديم سيرهم الذاتية عند تقدمهم لوظائف مختلفة، وهم بالطبع لا يمتلكون تلك السيرة في ظلّ حداثة تخرجهم، وفي ظلّ رفض معظم القطاعات تعيين موظفين تحت التجربة أو بقصد التدريب.
بعد رحلة طويلة بين ما بقي من بنوك خاصة في سوريا وشركات صرافة وأحلام كبيرة بالعمل في مجال تخصصه وتدرج وظيفي كبير تحمله الأيام، وجد جلال نفسه يقود دراجةً كهربائية بحقيبة خلفية صغيرة تفوح من داخلها رائحة الدجاج والثوم.
يقول: "كنت أحلم أن أكون وسيطاً بنكياً يتعامل بلغة الأموال ويدير دفّةً اقتصادية، ولكني وجدت نفسي وسيطاً بين سيخ الشاورما ومنازل الناس".
يتوقف جلال عن الكلام قليلاً ويبتسم مستكملاً ما بدأه: "بالمناسبة، وحتى يكون الإنسان جاحداً، فأنا لست مجرد عامل توصيل، إذ إنّ عملي بالتوصيل هو فقط من الثانية عشرة ظهراً إلى الثامنة مساءً، ثم أتولى المحاسبة في المطعم من الثامنة ليلاً حتى الرابعة فجراً، نعم حصلت على وظيفتين معاً وراتبين أيضاً، أليس هذا عملاً بالاقتصاد؟ أن أحسب حجم مبيعاتنا ولماذا هناك نقص في كريم الثوم وكم سيكلفنا بهار الدجاج غداً، أنا درست أربعة أعوام واحداً من أصعب التخصصات لأراقب بورصة الدجاج والزفر".
أعمارٌ ضائعة
يعمل جلال 16 ساعةً متواصلة يومياً من دون إجازة، وبالتأكيد هذا خياره، وبعض أقرانه في المهنة ذاتها يعملون لساعات أكثر في حركة ميكانيكية تحرمهم من رؤية أسرهم وأسِرّتهم إلا لساعات أقل من قليلة.
تحدث "النهار العربي" إلى كثير من عمال التوصيل. كثرٌ منهم لا يمتلكون شهادات دراسية قيّمة، لكن قسماً آخر كبيراً يمتلك شهادات مهمة جداً، ولكلّ منهم قصته وطموحه ومعاناته، لا سيما مع مظهره الاجتماعي في تلك الوظيفة الاضطرارية.
شركات "تركب" الموجة
عموماً يمتلك مطعم الوجبات الصغيرة ثلاثة عمال توصيل بالحدّ الأدنى، فيما يصل عدد العمال إلى 15 أو 20 عاملاً في المطاعم الشهيرة الذائعة الصيت والتي توصل مئات الطلبات يومياً، وبحسب جولة "النهار العربي" في أسواق المطاعم تلك، فإنّ أقل عامل يوصل بالحد الأدنى عشر وجبات يومياً، وفي أيام أخرى قد يتضاعف الرقم، وكلّها عوامل تزيد الدخل.
وعلى الخط دخلت شركات بعينها لتفتح أبوابها تحت عناوين توصيل الطلبات، فأنشأت تطبيقات يمكن استخدامها على الهواتف المحمولة، ليصير خيار عامل التوصيل أوسع، ما بين العمل في تلك الشركات أو مباشرة مع المطاعم، وبالطبع فإنّ الأخيرة تحقق له دخلاً أكبر باعتبار أنّ أجور التوصيل بأكملها لا يقاسمه فيها أحد.