النهار

الحرب تُجرّد سوريا من أطبائها الشرعيين... 64 في كلّ البلاد!
دمشق-طارق علي
المصدر: النهار العربي
من بين أبرز التخصصات الطبية التي تضاءلت حتى كادت تتلاشى هي الطب النفسي وطب التخدير، إذ صار الأطباء في هذين المجالين يُعدّون على أصابع اليدين، ليلحق بهم الأطباء الشرعيون الذين ظلّ عملهم مستتراً بعيداً عن الأضواء المباشرة قبل أن تكشف دراسات حديثة ماذا حلّ بهذا التخصص الجوهري.
الحرب تُجرّد سوريا من أطبائها الشرعيين... 64 في كلّ البلاد!
الطب الشرعي يفقد أطباءه في سوريا
A+   A-
أفضت سنوات الحرب الطويلة في سوريا إلى دمار قطاعات بأسرها، ونزف أخرى بصورة بات يصعب معها الترميم على المدى المنظور، ومن بين تلك القطاعات كان الجسد الطبي الذي عانى نزفاً هائلاً على مستويين: قتلى الحرب والأطباء المهاجرين بحثاً عن حياة أفضل وفرص عمل أكثر موثوقية وأجوراً.
 
قد يبدو لافتاً أنّ معظم الأطباء السوريين المهاجرين اختاروا السفر إلى دول مثل ليبيا والصومال والسودان رغم الحروب المشتعلة هناك، إلا أنّهم يتلقون مرتبات شهرية تصل إلى آلاف الدولارات، عدا الهجرة إلى دول أخرى في أفريقيا، والخليج بالتأكيد، والتجارب الأوروبية الناجحة.
 
ومن بين أبرز التخصصات الطبية التي تضاءلت حتى كادت تتلاشى هي الطب النفسي وطب التخدير، إذ صار الأطباء في هذين المجالين يُعدّون على أصابع اليدين، ليلحق بهم الأطباء الشرعيون الذين ظلّ عملهم مستتراً بعيداً عن الأضواء المباشرة قبل أن تكشف دراسات حديثة ماذا حلّ بهذا التخصص الجوهري.
 
 
إحصائيات مقلقة
تناولت وسائل إعلام شبه حكومية أخيراً أرقاماً تتحدث عن بقاء نحو 90 طبيباً شرعياً في سوريا فقط بعد 14 عاماً من الحرب أو أقل بقليل. وبعد أن تقصى "النهار العربي" عن الأمر، تبيّن أنّ من بقي من الأطباء الشرعيين هم 64 طبيباً بالضبط، وهذا الرقم لواحد من أكثر التخصصات شمولية وحيوية يُعتبر كارثةً كبرى في بلد يسكنه الملايين.
 
في دمشق وريفها، هناك نحو 20 طبيباً، في حمص وسط البلاد خمسة أطباء، في حلب نحو 10، في مدن كدرعا والحسكة طبيب واحد، وقد يزيد الرقم بحسب المهمات والتكليفات الوزارية، وتنطلق أهمية ذلك العمل الطبي من مشروعية سؤال: كيف سيتمكن هؤلاء من متابعة كمّ الجرائم اليومية المرتكبة؟ 
 
ما هو الطب الشرعي؟
يعنى الطب الشرعي بمتابعة مختلف الحوادث، بدءاً من الجنائية والقضائية وما يتعلق بالضابطة العدلية والانتحار وحوادث السير وتقييم حالة أيّ مصاب في أيّ سياق غير طبيعي "طبياً" مثل المشاجرات، والفصل ما بين القتل والموت الطبيعي، وصولاً إلى نبش الجثث ولو بعد سنين من الدفن تنفيذاً لأوامر قضائية بفتح ملف التحقيق من جديد، وكذلك توليهم ملف قتلى الحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فهل يكفي هؤلاء الأطباء إذا ما أجريت فقط مقارنةٌ بسيطة ما بين تعدادهم وتعداد الجرائم اليومية التي تنشرها وزارة الداخلية السورية على معرّفاتها الشخصية في وسائل التواصل؟ 

طبيب كل شيء
بسام محمد، أحد الأطباء الشرعيين المتبقين في سوريا، كان يشغل منصب عضو في مجلس الشعب خلال دورته الماضية التي انتهت قبل نحو شهر، ويعتبر مرجعاً وواحداً من أبرز التخصصيين الذين حضروا على خطّ الأزمة منذ بدأت الحرب وفي زخم أيام سقوط ضحاياها بالتزامن مع العمل الأساسي في متابعة الحوادث وتقييمها وإبداء الرأي الطبي والعلمي والتشريحي فيها، علماً أنّ الطبيب الشرعي هو المخوّل منح التقرير الطبي الذي يحدد زمن الإجازة التي يستحقها المصاب إثر أي حادث مهما كان نوعه، وهو ما يأخذه القضاء في الاعتبار خلال أحكامه ما بين الحق الشخصي واستمرار قانونية الحق العام بناءً على توقيت الإجازة. 
 
ويقول محمد لـ"النهار العربي": "يجب على الطبيب الشرعي أن يكون لديه إلمام كافٍ والقدرة على النظر في صوابية الأمور وتقييمها والبحث فيها علمياً، وأحياناً يكون الطبيب الشرعي هو رئيس اللجنة المكلفة دراسة الأخطاء الطبية بين المريض المدعي والطبيب والمستشفى المدعى عليهما، وباختصار شديد فإنّ كل وفاة غير طبيعية أو يشك بأنّها غير طبيعية تحتاج وجود طبيب شرعي، ويحق لنا بموجب أمر قضائي نبش جثة لبيان سبب الوفاة وزمنها وبالتالي تشريحها، ويعود موضوع النبش زمنياً إلى عوامل متفاوتة، ما بين مواد لا يمكن أن تزول من الجثة كل العمر كالتسمم بالزرنيخ والزئبق والطلق الناري، وبين مواد يمكن أن تغادر الجسم خلال 48 ساعة".
 
يروي محمد شيئاً من آلاف القصص التي مرّت عليه، وكيف كان يتعامل معها الطب الشرعي رغم افتقاده الإمكانات في كثير من الأوقات، وفي الوقت الذي كان ينزف فيه الجسد الطبي ويتهاوى ومعه كانت تزداد معدلات الجرائم وشناعتها واحتراف فاعليها.
يقول الطبيب إنّه في دراسة أجراها توصّل بموجبها إلى جرائم قتل بـ"دافع الشرف" كانت تُجبر فيها الضحية على شرب "حبوب الغاز"، وهو الاسم الشائع لـ"فوسفيد النيتروجين"، وهي حبوب متوافرة في الصيدليات الزراعية.
 
وعن ظواهر الانتحار المتنامية، يُبيّن أنّها "متفاوتة للغاية ما بين سريعة وبطيئة، وضمناً الشنق والطلق الناري والتسمم بالغاز والزرنيخ وطرائق أخرى يلجأ إليها المنتحرون الذين يتولى الأطباء الشرعيون أيضاً مهمات تحديد سبل وفاتهم وزمنها الدقيق"، خاصة حينما يكون الحديث عن أكثر من 80 حالة انتحار خلال النصف الأول من العام الجاري في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة فقط، وتلك إحصائية تبنتها الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا.

"أعطوهم حقوقهم"
الطبيب العام يونس حمادة يوضح لـ"النهار العربي" أنّ النسبة المتدنية لتعداد الأطباء الشرعيين قياساً بالارتفاع المهول لمعدلات الجريمة يجعل عمل هؤلاء الأطباء مرهقاً أكثر من الحدّ المعقول من دون مراعاة لخصوصية حياتهم نفسها ونوعيتها، مع مئات آلاف الحالات السابقة من الضحايا والجرحى.
 
يقول حمادة: "المشكلة العامة تبدأ لدى الجميع وتتخصص لدى الأطباء الشرعيين وهي الأجور والرواتب، فهم في النهاية موظفو دولة بمعزل عن الوزارة، ويتقاضون أجور العاملين الأساسيين ذاتها التي تبلغ بضعة دولارات شهرياً، ولأنّ اختصاصهم حساس في كيفيته البنيوية كما التخدير، فهم لا يستطيعون افتتاح عيادات خاصة، لأنّها لن تعنى بتقديم علاج معين كالطب الباطني والعصبي والنسائي والقلبي وغيرهم، إذاً، لا مراجعين لديهم، وعملهم يقتصر على الضابطة العدلية والقضائية، ومورد الاستفادة الوحيد الإضافي لديهم هو طلبهم في المراكز والمستشفيات الخاصة وغيرها لتقديم الاستشارة، ولكن هل هذا يكفي أو يعيل؟".
 
ويتابع: "الطبابة الشرعية والنفسية والتخدير اختصاصات يجب أن تدارى برموش العيون وإلا سنحصل على هذه النتيجة كما هي الآن من فقدان لهذه التخصصات من حولنا، ويكفي أن نقول إنّ أبسط شيء في يوميات الناس، وهو حادث السير، لا يمكن متابعته من دون الطبيب الشرعي.
 
ويضيف حمادة: "لنأخذ مدينة فيها طبيب واحد متبقٍ، فكيف سيتمكن من معالجة كل المشكلات من حوله وحيداً ثم في نهاية الشهر يحصل على أجر لا يكفي وقوداً لسيارته؟ لذا هاجر ويهاجر كل أولئك الأطباء، والأسوأ من ذلك أننا ما عدنا نرى ميولاً لدى طلاب الطب إلى التخصص بمجالات التخدير والشرعية والنفسية، وهذا يعني جيلاً مقبلاً سيتقاعد من دون أن يعوّض فراغ غيابه أحد".

كلمة مسموعة في القضاء
في العام الماضي، اعترض شخصان طريق الشاب نائل عطواني خلال عودته إلى منزله في حي التضامن في دمشق، كان اعتراضهما له بهدف سرقته، فحاول الدفاع عن نفسه ودرء خطرهما مستغلاً صراخه الذي دفعهما إلى الهرب بعد أن تلقى منهما بضع ضربات واحدةٌ منها كانت بقبضة حديدية في وجهه.
أسعفه الناس إلى أحد المستشفيات القريبة وأجريت له الإسعافات الأولية ريثما حضرت الشرطة ومن ثمّ الطبيب الشرعي الذي عاينه وكتب تقريراً، ويقول نائل: "بعد معاينتي كتب لي الطبيب إجازة بمقدار عشرة أيام، ولاحقاً علمت أنّه في القانون السوري لو كان كتب لي 9 أيام أو أقل لسقط الحق الشخصي والحق العام في الادعاء، ولكنّ عشرة أيام وما فوق تحفظ حقي بالادعاء الشخصي، وإذا أسقطت حقي الشخصي فإنّ الحقّ العام سيظلّ يطارد المعتدين، وكان ذلك الموقف كفيلاً بأن يبين لي كيف أنّ الطبيب الشرعي يمكنه أن تكون له كلمة فصل في كل ما يعترضنا خلال يومياتنا".

هل بقي النصف أم أقل بكثير؟
حوّلت الوزارات المتخصصة أطباءها إلى موظفين من دون أن تمنحهم حق التعويض المادي الذي يساويهم بأقرانهم من التخصصين في المجالات الطبية الأخرى، ليجد الطبيب الشرعي نفسه وقد درس عدد سنوات دراسة زملائه نفسها موظفاً في النهاية من دون امتيازات وتحفيزات تدفعه ولو قليلاً لئلا يترك البلد.
 
المرة الوحيدة التي تدخلت الأمم المتحدة في سياق إحصاء الجسد الطبي السوري منذ العام 2010 كان في نهايات العام 2020، إذ أشارت إلى أنّ تعداد الأطباء العاملين في سوريا عشية الحرب كان قرابة 30 ألف طبيب، فيما تبقى نحو 15 ألف طبيب عقب 10 سنوات، وبطبيعة الحال هي أرقام مشكوك فيها بعدما أعلنت ألمانيا  وجود أكثر من 6 آلاف طبيب سوري عاملين على أراضيها، وفي ظلّ وجود دول أخرى لا تقدم معطيات بهذا الشأن مثل ليبيا والسودان.

اقرأ في النهار Premium