النهار

وَهم الإثراء السريع: شباب سوريا يُدمن مواقع المراهنات الإلكترونية
المصدر: دمشق - النهار العربي
في عام 2017، أودى طلق ناري في أحد مقاهي مدينة اللاذقية على الساحل السوري بحياة "رودي" العشريني، الذي قتل نفسه هرباً من ملاحقات محصّلي الأموال في مواقع للمراهنات.
وَهم الإثراء السريع: شباب سوريا يُدمن مواقع المراهنات الإلكترونية
الصورة الرسمية لحساب موقع "ليرات" السوري للمراهنات الإلكترونية في فيسبوك
A+   A-

دمشق – "النهار"

عام 2017، أودى طلق ناري في أحد مقاهي مدينة اللاذقية على الساحل السوري بحياة "رودي" العشريني، الذي قتل نفسه هرباً من ملاحقات محصّلي الأموال في مواقع للمراهنات. فقد كان "رودي" ينتظر فوز الفريق الذي راهن عليه بمبلغ كبير كي يعوّض خسائره السابقة. لكنه خسر... فانتحر.

حينها، كانت مواقع المقامرة الإلكترونية تعتمد على رسالة يرسلها المقامر إلى "الدّيلر"، يكتب فيها قيمة المبلغ والرهان الذي حدّده، وتسمّى هذه الرسالة "ضربة". إن ربح الرهان، يتوجّه إلى هذا "الدّيلر" ليحصّل مستحقاته، وإن خسر يمهله الدّيلر أياماً قليلة كي يجمع المبلغ الذي حدّده في الرسالة... وإلّا تلاحقه مجموعة من الأشخاص يرهبونه ويضربونه حتى يدفع.

أسوأ ما في الأمر، أن "الدّيلر" يتيح للمقامر، خلال مهلة الانتظار، أن يقامر ثانيةً، فلعلّ الحظ يحالفه ويعوّض الخسارة. لكن مبالغ الخسارة تتراكم حتى يعجز عن سدادها تماماً.

رُبّ ضارة نافعة

هزّ انتحار "رودي" في اللاذقية الشارع السوري، وأبعد الشباب عن مواقع المراهنات الإلكترونية فترة طويلة. غير أن الظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها السوريون أعادت هذه المواقع إلى الواجهة من جديد، وفق نظام معدّل لا يعتمد على رسالة "الضربة"، بل على الدفع المسبق. ومن أبرز مواقع المراهنات الإلكترونية الشائعة في سوريا موقع "ليرات" وموقع "غوبيت"، وظهر أخيراً موقع "أيشانسي" الذي يجذب أغلبية المقامرين.

نظام العمل في مواقع المراهنات هرمي، يحتل فيها الوكيل العام رأس الهرم و"الدّيلر" أسفله. وكل فرد في هذه التراتبية يحمل لقباً خاصاً: فالوكيل العام يدير صندوق "الكاشير الأكبر" الذي يحتوي على مبالغ المراهنات المخصّصة لبلد ما مثل سوريا. والكاشير الأكبر يموّل "كاشيرات فرعية" أدنى رتبة تُسمّى "سوبر ماستر"، لا يتجاوز عددهم الحالي في سوريا العشرة. وكل "سوبر ماستر" يموّل الرتبة الأدنى منه، أي الـ "ماستر" الذي يتولّى توظيف أعداد كبيرة من الأشخاص، مهمّتهم استقطاب المراهنين والمقامرين، ويُسمّى هؤلاء "الدّيلريّة" أي جمع "الدّيلر"، وهؤلاء هم الوحيدون في هذه السلسلة الهرمية الذين يختلطون بالناس بشكل مباشر.

تُوزّع الأرباح بين رتب الهرم شهرياً: يحصل "الوكيل العام" على 50% من الأرباح، ويذهب النصف الثاني منها للموقع الإلكتروني الذي يتعامل معه. ثم يتقاسم "الوكيل العام" الأرباح مع الرتب الأدنى منه، حيث تكون حصة كلّ من "الوكيل العام" و"السوبر ماستر" و"الماستر" 10% لكل منهم، ويحصل "الديلر" على نسبة 20% كونه يتحمّل الجزء الأكبر من الجهد. وبذلك يجمع هؤلاء ثرواتهم وهم نائمون.

أرباح بعشرات المليارات في طرطوس

أعلن فرع الأمن الجنائي في محافظة طرطوس غربي سوريا، الأسبوع الماضي، عن القبض على شبكة جنت عشرات المليارات من الليرات السورية من ألعاب القمار والميسر والمراهنات الإلكترونية، بالاشتراك مع أشخاص خارج سوريا.

وقال ياسر العلي، رئيس فرع الأمن الجنائي في طرطوس، إنّ معلومات وردت عن شخص يُدير شبكة للمراهنات والقمار على الإنترنت. وأضاف في مقطع مصور نشرته وزارة الداخلية في الحكومة السورية: "بعد التأكّد من المعلومات، صدرت أوامر بمتابعة الموضوع وإلقاء القبض على جميع المتورطين".

وتابع: "بالتحقيق مع الشخص، اعترف بإقدامه على إدارة شبكة مراهنات وألعاب قمار بإشراف أشخاص خارج سوريا، وشخصين داخلها وتحديداً في مدينة اللاذقية".

وبحسب المتحدث، يجمع هؤلاء الأشخاص بالتنسيق مع وكلاء لهم في محافظات سورية عدة عشرات المليارات، ثم يحولونها إلى العملة الأجنبية ويرسلونها إلى خارج سوريا بطريقة غير مشروعة بعد تقاضي عمولتهم.

وأردف: "احتجز الأفراد أشخاصاً عدة، وأرغموهم على وضع بصماتهم على سندات أمانة لقاء استحصالهم على مبالغ مالية"، مضيفاً أنه سيتمّ تحويل الأشخاص إلى القضاء أصولاً.

طالب جامعي "ديلر"!

أدمت هذه المواقع نفسية الشباب السوري، وحدّت من طموح طلاب الجامعات وأحلامهم. وبعدما كانوا يعملون لإتمام دراستهم، باتوا يعملون لسداد الديون المتراكمة عليهم بسبب مراهناتهم.

أحمد، طالب جامعي في السنة الرابعة لكلية الهندسة المدنية في جامعة تشرين، يقول لـ"النهار": "بدأت رحلتي في مواقع القمار الإلكتروني بالمراهنة بمبالغ بسيطة. لا أخفي أنني جنيت في البداية مبالغ مالية تجاوزت 10 ملايين ليرة سورية، ما جعلني أدمن هذه المواقع، بعدما كانت المسألة لهواً لا أكثر".

ويضيف: "بعد آخر مبلغ ربحته، دخلت في دوامة من الخسائر لا تنتهي. كان ’الديلر‘ يعرفني، ويمنحني رصيداً في حسابي على شكل سندات أمانة أوقّعها مقابل كل مبلغ يتجاوز 300 ألف ليرة سورية. كنت واهماً أنني سأربح مالاً يغطي هذه السندات".

وبعد فترة، وصلت قيمة سندات أحمد المستحقة لـ"الدّيلر" لنحو 9 ملايين ليرة، ويقول: "بدأ بمطالبتي بها مهدّداً في كل مرّة باستخدام السندات في قضية قانونية". وحين عجز أحمد عن السداد، طلب منه "الدّيلر" أن يعمل لصالحه، فـ"عرض عليّ منصب ديلر، على أن أعطيه نسبة من الأرباح بما يعادل ديوني المستحقة. لم أستطع رفض عرضه، فالبديل كان المحاكم والسجن".

قناعات تتبدّل

صارت مواقع المراهنات الإلكترونية اليوم في متناول كل فئات المجتمع السوري، أي ما عادت محصورة بالشباب. فيكفي أن يمتلك المرء جوالاً. ولذا لاقت هذه المواقع انتشاراً واسعاً بين طلاب المدارس والمراهقين.

المستغرب أن نسبة لا بأس بها من الشباب السوري لا تحبّذ فكرة قمع المراهنات في سوريا، لأنها تمثل اليوم وسيلة أساسية للكسب والحصول على المال في ظل شح الرواتب التي يتقاضاها موظفو القطاع العام.

يقول سالم، وهو موظف سوري أدمن على المراهنات، لـ"النهار": "أعمل 9 ساعات يومياً، وأجني 500 ألف ليرة سورية فقط شهرياً، لكني جنيت عبر مواقع المراهنات أكثر من هذا المبلغ وبساعة واحدة فقط".

وبحسب سالم، فإنّ غياب القرارات التي تفيد في تحسين الوضع الاقتصادي الراهن "هي المؤسس الحقيقي لهذه المواقع، ولا يجدر بالجهات المعنية قمعها قبل أن يتمّ العمل على تحسين الحياة المعيشية وخفض الأسعار".

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium