دخلت مفاوضات التطبيع بين سوريا وتركيا مرحلة أكثر جدّية، مع الشروع في إعداد جدول أعمال الاجتماع المرتقب بين وفدي الطرفين، والذي يُحتمل أن يُعقد في وقت قريب، بحسب تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
وعلى الرغم من أجواء التفاؤل "الإيجابية" التي سادت بعد خطاب الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس الشعب، والذي أعطى من خلاله إشارة البدء في إجراء مفاوضات جادّة مع الجانب التركي من خلال تحييد "شرط انسحاب القوات التركية"، حيث اعتبر الأسد أن الانسحاب ليس شرطاً مسبقاً إنما يتمّ الاتفاق على معاييره ومواقيته خلال المفاوضات المرتقبة، يتوقّع أن تعترض سبيل المفاوضات بين الطرفين الكثير من العقبات والعراقيل الفنية والسياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، بسبب التراكم الهائل للقضايا والملفات المعقّدة والشائكة التي شابت علاقة البلدين منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011.
اجتماع قريب
ونقلت "صحيفة الوطن" السورية، المقرّبة من دوائر صنع القرار في دمشق، عن مصدر ديبلوماسي عربي لم تسمّه، توقّعه أن يُعقد الاجتماع بين وفدي الطرفين في نهاية أيلول (سبتمبر) الجاري، بعدما أنجز الجانب الروسي جدول الأعمال الخاص بالاجتماع.
وكان لافروف قد أشار إلى احتمال عقد اجتماع رباعي يضمّ روسيا وتركيا وسوريا وإيران في وقت قريب. ولم يتضح بعد إذا كانت الجهود الروسية في التوسط بين سوريا وتركيا تشكّل مساراً مستقلاً في حدّ ذاته، أم تسير جنباً إلى جنب مع الوساطة التي أعلن عنها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في وقت سابق.
وتميل أوساط سياسية سورية إلى الاعتقاد أن التقدّم الحاصل على مسار التطبيع هو حصيلة جهد خاص بالديبلوماسية الروسية، ولا علاقة له بالوساطة العراقية التي يبدو أنها دخلت مرحلة الجمود، بانتظار ما ستسفر عنه الوساطة الروسية.
مع ذلك، تحرص موسكو على عدم احتكار الجهود الرامية إلى التقريب بين دمشق وأنقرة، وهو ما تبدّى في تأكيدها اعتبار منصة أستانا التي تشارك فيها إيران، الأنسب لاحتضان مفاوضات التطبيع بين البلدين.
إجراءات إضافية
ما زال إنجاز "جدول الأعمال"، على أهميته كخطوة تمهيدية لا بدّ منها لإنجاح أي اجتماع، في حاجة إلى إجراءات إضافية قبل أن يصل هذا الجدول إلى طاولة المفاوضات، ليكون الإطار الذي يتناقش فيه الوفدان السوري والتركي. وأهم هذه الإجراءات هو موافقة كل من العاصمتين السورية والتركية على بنوده التي كشفت عنها "الوطن"، وأهمها "تحديد من هم الإرهابيون"، ووضع "استراتيجيا مشتركة لمكافحة الإرهاب"، وكذلك "تحديد جدول زمني لانسحاب القوات التركية المحتلة من الأراضي السورية" بعد تنفيذ البنود السابقة، ولا سيما مكافحة الإرهاب.
وأكّدت الصحيفة السورية، أن "تعديل اتفاقية أضنة" من بين البنود الأساسية التي وضعتها موسكو في جدول أعمال اللقاء المرتقب.
ومن مطالعة هذه البنود، يظهر مدى صعوبة التوصل إلى اتفاق بين الطرفين في وقت قصير، فمعظم هذه البنود تشكّل قضايا إشكالية في العلاقة بينهما، ويحتاج كل بند منها إلى اتفاق مستقل لتأطيره وتنفيذه، وقد تستغرق كل خطوة من هذه الخطوات جولات عديدة من المفاوضات تمتد أشهراً، إن لم نقل سنوات.
إرهابيون أو ثوار؟
ومن وجهة نظر دمشق المبدئية، كلّ الفصائل المسلّحة التي تدعمها تركيا هي "تنظيمات إرهابية"، وممكن أن تغيّر العاصمة السورية تصنيفها باستثناء الفصائل التي توافق على ما تقرّره مفاوضات التطبيع، بينما لا تملك أنقرة مثل وجهة النظر هذه، إذ تعتبر الفصائل التي تدعمها تنظيمات ثائرة وأبعد ما تكون عن الإرهاب. وكذلك الأمر بالنسبة إلى "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) التي تعتبرها أنقرة تنظيماً ارهابياً بحكم تفرّعها من حزب العمال الكردستاني. لكن دمشق، على الرغم من عدائها مع القوات الكردية، فقد لا تكون متحمسة لفكرة تصنيفها على قوائم الإرهاب.
وتنص الصيغة الحالية من "اتفاق أضنة" الذي وقّع بين سوريا وتركيا في أواخر القرن الماضي، على السماح للقوات التركية بملاحقة التنظيمات الإرهابية ضمن مسافة لا تتجاوز 5 كيلومترات من الحدود بين البلدين. وتطالب تركيا بتعديل هذه المسافة لتصبح 30 كيلومتراً، بما يتناسب مع حدود انتشارها في بعض المناطق السورية حالياً. غير أن قبول دمشق بهذه الصيغة مستبعد، وقد تطالب في المقابل بأن تتولّى هي نفسها مهمّة ملاحقة التنظيمات الإرهابية بمساعدة بعض الدول بما فيها تركيا. وقد لا تكون الثقة بين الطرفين كافية للتوصّل إلى صيغة مقبولة من كليهما، نظراً إلى استغلال أنقرة ودمشق التنظيمات المسلحة بهدف إزعاج كل منهما الآخر وزعزعة استقراره.
ترتيب البيت السوري
غير أن الرهان يظلّ معقوداً على قدرة موسكو في تخطّي مثل هذه العقبات، ولا سيما أن التقارب بين دمشق وأنقرة أصبح يشكّل قضية أساسية للديبلوماسية الروسية التي تتوخّى منها إعادة ترتيب البيت السوري، بما يمكنها من مناكفة القوات الأميركية المنتشرة في الشرق السوري من جهة، والتخفيف من أعباء مناطق نفوذها في الخارج كي تتفرّغ لجبهة القتال في أوكرانيا.
وتشكّل عودة الدوريات الروسية – التركية المشتركة في منطقة عين العرب دليلاً على طبيعة الجهود التي تبذلها موسكو لتحقيق هذا الهدف.
وعلى الرغم من عدم نجاح أنقرة في اختبار افتتاح معبر أبو الزندين بين مناطق نفوذها ومناطق الحكومة السورية، فإن هذا لا يشكّل دليلاً على عجزها عن القيام بذلك، بقدر ما يشكّل دليلاً على مدى التعقيد الذي يُحيط بكل بند من بنود جدول الأعمال الروسي لإنجاز التطبيع.