"لديّ ثلاثة أولاد في المرحلة الابتدائية، وأنا مهندس حكومي في سوريا، مرتبي نحو 20 دولاراً. لم أتوقع أنّ تجهيز أولادي بأقلّ الإمكانيات سيكون مكلفاً بهذا القدر". هذا ما يقوله المهندس الزراعي علي النوري لـ"النهار"، واصفاً شهر أيلول (سبتمبر) بأنّه "كارثي".
ويشرح النوري كيف فوجئ بفارق الأسعار بين هذا العام والفائت والذي سبقه، فالأسعار "تتغير بين أسبوع وآخر من دون أن يطرأ أي تغير في سعر صرف الدولار، ومن دون أي تكاليف إنتاج إضافية تتكبدها المصانع، والأسوأ أن سعر المادة نفسها تختلف بين متجر وآخر مجاور"، مضيفاً بأسى: "لا يُعقل أن يصل سعر حقيبة الطفل المدرسية إلى 30 دولاراً، وسعر الحقيبة المتوسطة الجودة إلى 20 دولاراً، والشعبية الرديئة التي لا تدوم أكثر من شهرين إلى 10 دولارات"، فخيار السوريين هو الشعبي اضطراراً.
عام من العمل
المعاناة واحدة في كل بيوت السوريين على أبواب المدارس. يتقاضى قصي حسن، وهو موظف حكومي في أحد البنوك العامة، مرتباً شهرياً يعادل نحو 35 دولاراً، وله من الأولاد أربعة، يواجه الأمرّين لتجهيزهم للمدرسة، حتى أنه باع بعض أدوات منزله المصنفة "بنوداً رفاهية، كالمايكرويف والفرن الكهربائي الصغير والمروحة، فالشتاء مقبل، وعسى أن يتحسن الوضع حتى الصيف المقبل"، كما يقول لـ"النهار"، مضيفاً: "نحن بالكاد نعيش ونستدين أضعاف الراتب لنكمل شهرنا".
يضيف: "لديّ طفلٌ وطفلة في المرحلة الابتدائية. باختصار، دفعت 40 دولاراً ثمن حقائب مدرسية، و7 دولارات ثمن علب هندسية، و10 دولارات ثمن أقلام بسيطة وتبعاتها، و8 دولارات ثمن حافظتي أقلام من النوع الجيد، و18 دولاراً ثمن لباسين مدرسيين، و30 دولاراً ثمن حذاءين، و15 دولاراً ثمن نسختي كتب، فالكتب التي تؤمّنها الحكومة للطلبة مشوّهة ومهترئة وتالفة بتقادم السنين".
ووفقاً لقصي، خفّت القيود على اللباس المدرسي الرسمي خلال الحرب، أي البدلات الزرقاء الرسمية لطلاب الإعدادية، والرمادية لطلاب الثانوية، وهي باهظة الثمن، وصار يُسمح للطلاب ارتداء "الجينز"، على أن يرتدي الطالب الشاب قميصاً أزرق فوقه، والفتاة قميصاً زهرياً، و"ما ينطبق على طفليّ في المرحلة الابتدائية ينطبق على الولدين الآخرين في المراحل الدراسية الأعلى، على أن نضرب ثمن المدفوعات بثلاثة، خصوصاً أنّ وزارة التربية رفعت قبل شهرين ثمن الكتب بنسبة 100%".
ويتابع: "تكلفة كتب الثانوية تصل إلى 10 دولارات للعام الدراسي الواحد، وأقل قليلاً للمرحلة الإعدادية. وبحسبة بسيطة، دفعت مصاريف كل أولادي ومستلزماتهم المختلفة التي يزيد ثمنها مع الترفع من كلّ صفّ دراسي إلى آخر أكثر من 300 دولار، أي ما يعادل راتبي سنة كاملة، فهل هذا منطقي؟".
عالم موازٍ
يتطابق كلام الرجلين مع الواقع الذي تعيشه آلاف الأسر التي لم تتمكن من تجهيز أولادها، فاعتمدت أنظمة مختلفة للتأقلم مع العام الدراسي، بينها القبول بالكتب المهترئة وإعادة توزيع الملابس رغم حالتها الرثة، والتوجه نحو شراء الحاجيات الأكثر شعبيةً في السوق، والتي لن تدوم حتى نهاية العام الدراسي، فلا مجال للتفكير بأي رفاهية بعد حرب طاحنة تركت 90% من السوريين تحت خط الفقر، بحسب الأمم المتحدة التي تقول إن 14 مليون سوري يحتاجون إلى دعم غذائي فوري، ونصفهم على الأقل دخل مرحلة الخطر الغذائي.
يقول راغب الجدي، مدير التعليم في وزارة التربية في الحكومة السورية، إنّ مهمة الوزارة في المدارس الحكومية "تأمين بناء مدرسي ومقاعد للطلبة ومعلّم متاح ووسائل تعليمية جيدة، وما دون ذلك صار يعتبر فندقة".
يطرح هذا التصريح سؤالاً عميقاً حول مفهوم "الفندقة" في وزارة التربية، خصوصاً أنّ شروط التعليم الحكومي السوري "المجاني" في سوريا هي واحدةٌ من الأسوأ في العالم، فيما يصح مصطلح "الفندقة" حصراً على المدارس الخاصة التي بلغت أقساط بعضها آلاف الدولارات.
شهرٌ للعذاب
إلى جانب التعليم، يزيد أيلول عذابات السوريين كونه شهر المؤن التي نسي السوري معظمها، فاقتصرت موائدهم على ما حضر، بعدما صارت تكلفة إعداد "مكدوسة وحدة" أكثر من نصف دولار، فيما اعتاد السوريون قبل هذه السنوات العجاف التموّن بعشرات الكيلوغرامات من المكدوس، وإلى جانبها اللبن وأصنافه والقريش والزيت.
ولا ننسى أنه شهر تأمين "المازوت الحرّ" للتدفئة شتاءً، على اعتبار أنّ الحكومة لا تمنح كلّ عائلة إلا 50 ليتراً بالسعر المدعوم، لتبحث العوائل هذه الأيام عن شرائه من السوق السوداء بسعر دولار لكل ليتر، قبل أن يرتفع سعره مع دخول الشتاء.