تعكّرت أجواء التفاؤل التي سادت بعد خطاب الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس الشعب في ما يتعلق بملف التقارب بين سوريا وتركيا، نتيجة الخطوة التي أقدم عليها وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، بانسحابه من اجتماع وزراء الخارجية العرب قبل بدء وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلقاء كلمته، رغم أن حضور الأخير للاجتماع لم يكن ليتمّ لولا موافقة جميع الدول الأعضاء في الجامعة العربية، أو عدم اعتراض أي دولة على هذا الحضور.
موقف المقداد يشبه ما حدث بين الرئيس السوري وأمير قطر في أثناء قمة جدة الأخيرة، عندما غادر الأخير قاعة الاجتماعات مع بدء الأول خطابه، بالرغم من أن عودة سوريا إلى الجامعة العربية وحضور رئيسها قمة جدة لم تكن ممكنة لولا موافقة قطر أو عدم اعتراضها على ذلك.
الخطوة التي اتخذها رئيس الدبلوماسية السورية لم تصل إلى حدّ المقاطعة، إذ ظلّ أحد أعضاء الوفد السوري، وربما هو أقلّهم رتبة في السلك الدبلوماسي، جالساً في مقعده للاستماع إلى كلمة الوزير التركي. غير أن مغادرة المقداد مع باقي أعضاء الوفد لم تخلُ من رسالة قد يكون من بعض ما تضمنته، محاولة رسم حدود للموقف المرن الذي عبّر عنه الأسد، من خلال التنازل عن شرط انسحاب القوات التركية واعتبار ذلك من المواضيع التي ينبغي الاتفاق عليها في أثناء المفاوضات بين الجانبين.
توزيع أدوار
يأتي ذلك في سياق توزيع الأدوار بين المؤسسات السياسية السورية، إذ تتولّى رئاسة الجمهورية إبداء المرونة وفتح الأبواب أمام التقارب مع تركيا، فيما تقف وزارتا الخارجية والدفاع حارستين على تفاصيل هذا المسار، وتتوليان إبداء مواقف متشدّدة وضاغطة، بهدف الحفاظ على خط العودة إن أخفقت جهود الوساطة الروسية في إيصال قطار المصالحة بين البلدين إلى محطته الأخيرة.
نادرٌ أن تعتمد السياسة السورية على استراتيجية توزيع الأدوار في معالجة أي قضية إقليمية أو دولية، حيث كان التطابق بين موقف الرئاسة والخارجية والدفاع من الثوابت التي لا تمكن الزحزحة عنها قيد أنملة. غير أن التعقيد الهائل والتشابك الكبير اللذين ينطوي عليهما ملف التقارب مع تركيا، قد يكون فرض على الدبلوماسية السورية اتباع هذا النهج المستجد. كما أن اعتماد تركيا سياسة توزيع الأدوار بين مسؤوليها قد يكون أغرى دمشق بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، لما يقدّمه هذا المبدأ من خيارات واسعة للتعامل مع مواقف تفصيلية قد تشهدها جهود التطبيع بين الدولتين، كما أنه لا يحرم الجانب الذي يتبنّاه من إمكانية التراجع عن بعض المواقف التي تتخذها مؤسسة ما من مؤسساته، بذريعة أن الموقف الرسمي تمثله مؤسسة أخرى كان لها رأي مختلف حول هذا القضية أو تلك.
ولم يصدر عن أنقرة أي ردّة فعل رسمية بشأن مغادرة المقداد أثناء إلقاء فيدان كلمته، الأمر الذي يبين أن تركيا ربما لم تُفاجأ بخطوة المقداد، أو ربما كان لديها مؤشرات إلى إمكان حدوثها. وهو ما يدل بطبيعة الحال على عدم رغبة أنقرة في الدخول في سجال سياسي من شأنه أن يعرقل مسار التقارب الذي أبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حماسة كبيرة لتحقيقه، حتى لو تطلّب منه الأمر عقد لقاء ثنائي مع الرئيس السوري.
معارضة تركية
التقطت المعارضة التركية هذه الحادثة لتكيل الاتهامات إلى حكومة أردوغان بالحط من قيمة تركيا والفشل في معالجة ملف التطبيع مع دمشق. وقال مسؤول العلاقات الدولية لحزب "الجيد" التركي المعارض أحمد إيروزان، عبر حسابه في "إكس"، إنه تفاجأ من مغادرة المقداد، بالرغم من موافقة الحكومة السورية على حضور فيدان اجتماع القمة. ويرى إيروزان أن مغادرة الوفد السوري قبل كلمة فيدان هي تحدٍ للجانب التركي، "فدمشق تقول إن كنتم تريدون التطبيع فنحن نريد الأفعال لا الأقوال".
وخاطبت إلهان أوزغيل، نائبة مسؤول العلاقات الخارجية في حزب "الشعب الجمهوري" المعارض، الحكومة التركية عبر تغريدة قالت فيها: "ألم تكتفوا من إحراج تركيا على الصعيد الدولي؟".
واعتبرت الصحفية التركية هدية ليفينت أن موقف الوفد السوري كان "احتجاجياً بشكل واضح"، مضيفة أن الأمور بين دمشق وأنقرة لا تسير وفق ما تريده تركيا.
ورأى الأكاديمي التركي مراد يشيلطاش أن مغادرة الوفد السوري تعبّر عن موقف دمشق من المصالحة التركية - السورية، "فهمّ الحكومة السورية هو البقاء في السلطة، ولم تعد تهتم لشيء آخر".
من جانبها، وصفت إلاي أقصوي، عضو الهيئة الإدارية في حزب "الديموقراطية" التركي، تعامل الحزب الحاكم في تركيا مع الملف السوري بـ"الفشل الذريع"، قائلةً "إن سوريا التي حاول حزب العدالة والتنمية تقويضها على مدار 13 عاماً، قالت أمام الجميع إن دولتي هي الأهم، وبالتالي شروطي هي السارية".
حضور بعد انقطاع
وكان فيدان قد حضر مؤتمر القمة العربية على مستوى وزراء الخارجية في القاهرة، الثلاثاء. وحضور فيدان هو الأول بعد انقطاع 13 عاماً بسبب خلافات بين أنقرة وعواصم عربية عدة، بسبب موقف تركيا من الربيع العربي وعدة قضايا أخرى مثل الأزمة الخليجية.
وذكر موقع التلفزيون الرسمي التركي، أن دعوة الحضور لاجتماع القمة وجّهتها مصر والسعودية والإمارات، في أثناء زيارة حقان فيدان لها.
وتعود جذور الخلاف السوري - التركي إلى عام 2011، بعدما أعلنت الحكومة التركية تأييدها الثورة السورية وسحبت تمثيلها الدبلوماسي من دمشق. وفي أواخر عام 2022، بدأت أنقرة تميل لإعادة العلاقات مع الحكومة السورية.
وفي نهاية حزيران (يونيو) الماضي، أبدى أردوغان استعداده للقاء الأسد.
من جانبها، لم تعارض دمشق مع أنقرة، لكنها أعلنت عن جملة شروط للموافقة على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع تركيا، وعلى رأسها انسحاب الجيش التركي من شمالي سوريا.