قبل أقل من أسبوعين حصلت حادثة خلال حوار تلفزيوني على إحدى القنوات المصرية شدت انتباه الرأي العام إلى مشكلة مركّبة يعانيها الجيل الشاب، سرعان ما تحوّلت إلى "ترند" يطرح جدلية سوق العمل والبطالة وأحقية خريجي الجامعات في التوظيف وفق كفاءاتهم.
القصة حصلت خلال برنامج تلفزيوني على "قناة الشمس" المصرية تحت اسم "تفّاحة مصرية" وتقدمه الفنانة مروة عبد المنعم، إذ ورد اتصال إلى البرنامج خلال بثّه المباشر من فتاة استهلت حديثها طالبةً عدم المقاطعة أو قطع الاتصال، وهو ما حصل فعلاً.
توجهت الفتاة إلى المذيعة بالقول: "أنا لديّ مشكلة في الناس التي تعمل في مهنة لا علاقة لها بها، كحضرتك مثلاً، فأنت ممثلة والآن مذيعة، لست أفهم لماذا، لو تظلين في مهنتك أفضل"، موضحة أنّها خريجة كلية الإعلام منذ 2017 من دون أن تحظى بوظيفة حتى الآن في تخصصها بسبب التعديات الواقعة عموماً على مختلف المهن من غير المتخصصين.
بمعزل عن ردود الفنانة الدبلوماسية والهادئة وما آل إليه النقاش، لكنّ تلك النقطة لامست الصواب بدقة، وهو ما تبدى أنّه يمكن إسقاطه على معظم الدول العربية التي مرّت بأزمات سياسية أو عسكرية أو ثقافية أو اجتماعية أدت بمجملها إلى رفع منسوب البطالة بين الفئة الشابة، وهو ما شكل تالياً واحداً من أبرز أسباب هجرة العقول والكفاءات.
الكوميديا السوداء: الحجّي المسيطر
وبالانتقال إلى سوريا، فإنّ البلد الذي مزقته الحرب وصلت نسبة البطالة فيه إلى حدود 50 في المئة بحسب الأمم المتحدة أواسط العقد الماضي، مع مرور سنوات الحرب الخمس الأولى، وهي نسبة تعتبر واحدةً من بين الأعلى عالمياً، ورافقت تلك البطالة، وتلتها، نِسبُ تضخمٍ غير مسبوقة أفضت إلى اختلاطات مهنية غير متوقعة في سياق تنفيذ العكس الدقيق من قاعدة "الشخص المناسب في المكان المناسب".
وإذا كانت البطالة مشكلةً عامة في سياقها الفعلي، وأدت إلى ما أدت إليه من مشكلات في كل دولة على حدة، لكنّها في سوريا تكتسب خصوصية تنطلق من الكوميديا السوداء لما بقي من شركات، أو أشباه شركات يديرها أهلياً إدارة غير احترافية ما بات يُعرف بـ"الحجّي" اصطلاحاً كما درجت التسمية، وهي تسميةٌ ابتدعها السوريون للسخرية من العقلية البدائية التي تدار بها تلك الشركات من قبل أشخاص غير متعلمين في أحيان كثيرة، يديرونها بعقلية "سوق الجمعة"، وهي في العلوم الاقتصادية "شركات أمرٍ واقع".
وفي تلك الشركات تتنوع أنواع التوظيف وأساليبه لتكون بمحصلتها تخضع لخانة ألا يوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، فالمحاسب خريج حقوق، والمدير التنفيذي خريج هندسة ميكانيك، ومدير الموارد البشرية خريج أدب عربي، وهكذا.
"على الثقة"
في إحدى سنوات الحرب برزت شركة مركزية لبيع الأجهزة الخلوية، ظهرت وعملت لسنوات واندثرت من دون أن يعرف الناس لمن تعود تلك الشركة أساساً، وكان يدير صالات المبيع المركزية فيها مهندس معماري، هو يقول عن نفسه إنّه لم يكن يستطيع التمييز بين الأجهزة ومواصفاتها، ولكنّه حظي بالوظيفة عن طريق ابنة عمّه التي كانت تدير قسم الموارد البشرية، حتى أنّه منذ تعيينه تجاوز سلسلة الترقيات وتسلّم فوراً واحدة من أبرز المهمات، كان ذلك منذ سنوات انقضت، فلا يبالي المهندس جميل قلعة بذكر اسمه وما حصل معه.
يقول في سياق حديثه إلى "النهار العربي": "هل يتوقع أحدٌ هنا أن يحظى بوظيفة من دون وساطة ورسالة توصية ومحسوبيات؟ عجزت عن إيجاد عمل في مهنتي كمهندس، والأسوأ أني أرى كيف تتدمّر بلدي وهي بأمسّ الحاجة لنا لإعمارها، ولكن لا أحد يريد الإعمار، فكان لا بدّ من أن أجد عملاً أعيل به نفسي، ولحسن حظّي كانت قريبتي في منصب مهم في الشركة، وحقيقةً وظفتني من دون مقابلة عملٍ حتى". ويكمل ضاحكاً: "على الثقة".
صدفة بملايين
في سنوات الحرب الأولى كان أحد الشبان من خريجي كلية الزراعة يطمح إلى العمل الإعلامي، سعى لأجل ذلك كثيراً، وكان يبدو الأمر غريباً، من الزراعة إلى الإعلام. قطاعان لا يتقاطعان، ولسوء حظّه لم يكن يملك واسطة أو ظهراً يسنده، رغم ذلك حاول كثيراً بين مواقع إلكترونية وإذاعات وتلفزيونات عاملة في سوريا، ولم يوفق.
في إحدى المرّات توجه إلى إحدى الجهات الإعلامية ليقدم نفسه إليها، كانت فرصة حصوله على وظيفة صفراً، ولكنّ حدثاً غير متوقع طرأ خلال وجوده في الداخل، هجوم من مسلحين على المنطقة أفضى إلى حصار المكان الذي كان في داخله لبضعة أيام، لم يتمكن أحد من الدخول أو الخروج لضراوة الاشتباكات في الجوار. وجوده في الداخل صار أمراً واقعاً في توقيت لم يكن فيه نصاب الموظفين مكتملاً، ما دفع الإدارة مضطرةً إلى تكليفه أشياء بسيطة خلال هذه الأيام.
تلك الأشياء لم تكن أكثر من تلقي الاتصالات وإجرائها وتفعيل التواصل عبر قسم العلاقات العامة، انقضت تلك الأيام وحظي بوظيفة، اليوم بات ذلك الصحافي يتقن الشيء الجيد من المهنة، قبل أن يختار التوجه إلى مصر وإكمال مسيرته هناك.
أسئلة عميقة
عموماً صار السوريون يطلقون على أسماء الشركات بمختلف تصنيفاتها المهنية أسماء "دكاكين". رونا حزام، خريجة إدارة أعمال، تقدمت إلى وظيفة في شركة، فسألها قسم الموارد البشرية أسئلة غريبة على شاكلة: "كم عدد إخوتك، ما هي وظائفهم، ما أسماء زوجات إخوتك؟"، فيما سُئلَ المهندس عطاء إبراهيم خلال مقابلة العمل: "هل تفكر بالسفر خلال خمس سنين؟ هل تقبل بعام عمل تدريبي غير مدفوع؟".
أما خريجة كلية التجارة مرام عدنان فخضعت للأسئلة الأغرب: "من تحبين أكثر والديك أم العمل؟ إذا توفي خالك هل ستأتين إلى العمل أم ستذهبين إلى الدفن؟ هل تحبين القهوة بسكر؟".
يصف هؤلاء الأشخاص وغيرهم ممن استمع إليهم "النهار العربي" أنفسهم بأنّهم "ضحايا" مقابلات العمل، فيما يؤكد آخرون أنّ من أجروا لقاءات معهم كانوا أشخاصاً غير مؤهلين وبعضهم بالكاد حاصل على الثانوية العامة.
"الحجّي" يسيطر في دكانه
ولصدفةٍ ما، إذا حظي شخص بوظيفة فإنّه سيكون مهدداً بالطرد في أي لحظة من دون تعويض نهاية خدمة لأنّ معظم تلك الشركات لا تسجل موظفيها في التأمينات الاجتماعية، والأسوأ أنّ كثيراً منها تجبر الموظف على توقيع استقالته مع توقيع عقد عمله، لتتمكن من طرده في أي وقت من دون أن يطالب بحقوقه.
وفي بيئة العمل تلك يتعرض الجميع لمواقف لا تُعدّ ولا تحصى، والتحرش بالطبع جزء منها، والتآمر بين الموظفين، وغير ذلك، ليقود في النهاية "الحجّي" شركته بـ"المعية" و"الفهلوية" والنزعة النرجسية، وذلك بطبيعة الحال ما لا يمكن تعميمه وإن كانت الحسنة تخصُّ فإنّ السيئة تعمُّ.