حذرت مصادر رسمية وعلمية سورية في أكثر من مناسبة من احتمال انقراض زراعة الحمضيات في البلاد سريعاً خلال السنوات أو العقود المقبلة، بعد توجه المزارعين إلى زراعة الفواكه الاستوائية الباهظة الثمن والقليلة الكلفة قياساً بالحمضيات التي تعاني صعوبات جمّة في تصديرها وخسائرها المتنامية في سياق تخزينها وتسويقها إلى الداخل السوري أو إلى الخارج.
ملف البصل
وإضافة إلى الحمضيات، تعاني زراعات أخرى منافسة الزراعات الحديثة، وعلى سبيل المثال تبرز مشكلة زراعة البصل وما حلّ بها بحسب وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق عمرو سالم.
يقول سالم، في هذا الصدد، إنّ أزمة البصل خلال فترة توليه الوزارة كان سببها أن وزارة الزراعة قدمت تقديرات بكمية البصل المحلي على أنها أكثر من استهلاك البلد وطلبت السماح بتصديره. وفي الموسم تبيّن أن تقديرات وزارة الزراعة كانت خاطئة، وأن الإنتاج كان أقل بـ14 ألف طن. ولذلك ارتفع سعر الكيلو إلى 16 ألف ليرة (حوالى دولار أميركي)".
ويوضح سالم، لـ"النهار العربي"، أن اللجنة الاقتصاديَة سمحت باستيراد 2000 طن فقط بينما كانت الحاجة إلى ثمانية أضعاف الكمية، لكنها ألزمت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ببيعها عن طريق صالات "السورية للتجارة"، وبما أن الكمية المسموح باستيرادها كانت تعادل ثمن الحاجة، تقرر بيعها على البطاقة للمواطنين.
وعلى ذلك المثال يمكن قياس كيفية التعامل مع ملف الحمضيات وبقية الزراعات، إذ لا يزال يستذكر أهل منطقة الغاب شمال حماه كيف دفعتهم الحكومة إلى إتلاف محاصيلهم من الشمندر السكري قبل أعوام بسبب عدم شرائها، متكبدين خسائر لم يخرجوا منها حتى الآن.
نسبة كبيرة
"النهار العربي" حصل على معلومات من وزارة الزراعة تفيد بأنّ المساحة المزروعة اليوم بالفواكه الاستوائية في طرطوس واللاذقية باتت تعادل 10 في المئة من مجموع الأراضي القابلة للزراعة، من دون أن ترى تهديداً في ذلك، علماً أنّ النسبة بحد ذاتها مرعبة، بل إنّ مزارعين أكدوا أنّ النسبة أعلى من ذلك بكثير.
بطبيعة الحال لا تنمو أشجار الفواكه الاستوائية في مناطق الداخل السوري بسبب العوامل الجوية الباردة شتاءً، ليكون الساحل السوري بيئة خصبة لزراعة بدأت قبل نحو عقد ونمت فانتشرت كالعدوى بين المزارعين الذين سئموا زراعة الزيتون والتفاح والحمضيات وآفاتها الزراعية ومصاريف رعايتها الدوائية واحتمالية انهيار الموسم بأكمله لسبب أو لآخر، فضلاً عن كمية الجهد المطلوب لإتمام الحصول على موسم جيد لن تكون أرباحه مجزية لظروف متعددة، أبرزها سلسلة الوساطات بين المزارع والمشتري.
مصادر الوزارة أشارت إلى أنّ إنتاج هذا العام من الحمضيات التي تركز 99 في المئة منها في الساحل قد تراجع إلى حدود 20 في المئة، مع خسارات بالجملة للمزارعين الذين انخفضت مبيعاتهم إلى النصف مع توقف النقل إثر ارتفاع كلفته، وتالياً إحجام الناقلين عن تولي تلك المهمة.
اليوم، لم يتبقَ سوى نحو 13 ألف شجرة مثمرة ومنتجة في الساحل، مزروعة ضمن مساحة تعادل 40 ألف هكتار، ليكون إجمالي الإنتاج أقل من 700 ألف طن.
زراعة مقوننة مع إمكانية التصدير
رئيس لجنة الزراعة حمود شيبان يقول لـ"النهار العربي" إنّ التوجه إلى استبدال زراعة الفواكه الاستوائية بالحمضيات مغفور في سياق البحث عن أرباح تلائم جهود الفلاح، ولكنّ خطورتها هي في شعبيتها وانتشارها السريع بين المزارعين الذين باتوا يعلمون أنّ ذلك الانقلاب سيكون في مصلحتهم كماً ونوعاً ومالاً. وذلك حوّل سوريا من واحدة من كبريات الدول المصدرة للحمضيات إلى دولة مستوردة.
ويرى حمود أن هذا التوجه الذي بدأ يكتسب الصفة الجماعية "مقلق للغاية"، فلا يمكن الاعتماد على الداخل السوري وحده في إنتاج النقص، والفلاح بات يدرك أنّه سيحوّل أرضه لاستثمار ناجح ومجزٍ وأرباحه كبيرة بأقل جهد وتعب، بل إنّ الفواكه الجديدة سيبيع الكيلو منها بعشرة دولارات أحياناً، وهو ما يعادل سعر صناديق عدّة من الحمضيات.
ويضيف حمود أن "الزراعة الاستوائية مقوننة في القانون السوري، وقد نصل إلى مرحلة الاكتفاء والتصدير حتى خلال خمسة أعوام، ولكن سنكون خسرنا الحمضيات، فهذه الزراعة اليوم مهددة بالاندثار فعلاً، وحينها لن تنفع أي حلول، سنستوردها مع الزيت وبقية الأشياء، وستحل فاكهة التنين الغريبة عن البيئة السورية محل التفاح والليمون الشهيرين، وغيرهما، لذا أنا أدعو إلى قوننة إضافية وتنظيم مركّز، على قاعدة ألّا يموت الذئب ولا تفنى الأغنام، وإلا فإننا مقبلون على كارثة من دون مبالغة".
مشكلات منتظرة
الباحث في مجال الاقتصاد الزراعي المستشار مرعي المصري يلفت، في حديث إلى "النهار العربي"، إلى أنّ "التحول السريع بين الزراعات لن يحمل آثاراً إيجابية على المديين المنظور والبعيد على البيئة والمناخ، وسيفضي إلى مشكلات جمّة توصف أكاديمياً بـ"الإيكولوجية"، إضافةً إلى ما ستحمله من تعد على التنوع الحيوي والبيولوجي في مناطق الزراعة، ما سيخلق اختلالات بيئية تحيل المزارع المتسرع أخيراً إلى خاسر في الحمضيات والاستوائيات ومصدر مسبب لآفات تتطلب استصلاحاً ليس هذا وقته".
المصري لا يلوم الفلاح عامةً، إذ بين أنّه يدفع مصاريف باهظة وفوق قدرة الاحتمال لحماية أشجار التفاح، كمثال، من الآفات والحشرات، وتلك الدفوعات أحياناً تتجاوز أسعار المحصول بأكمله، فيما يمكنه أن يزرع أشجاراً تتطلب عناية بسيطة وتنتج أنواعاً من الفواكه التي باتت مرغوبة في السوق، وقد تكون حبة أو حبتان منها بسعر 5 دولارات، بينما لا يصل أحياناً سعر الكيلو من الحمضيات إلى ربع دولار.
آلاف العقبات
الاقتصادي مسلّم مرمر، الذي كُلّف رسمياً قبل مدّة بإعداد دراسات تعنى بهذا التحول السريع في شكل الزراعة، يبيّن لـ"النهار العربي" أنّ القصد منه هو الوفرة والجني السريع، لكنّه في الوقت ذاته سيحمل مفاعيل سيئة على مستويات متعددة، وهو ما قدّمه في تقاريره للجهات المعنية.
ويرى أنّ خلو المناطق تلك من زراعتها التاريخية سيفضي إلى واقع مفكك يعتمد على التخلي عن الحاجة التاريخية القائمة أسرياً بالإرث في رعاية المحاصيل المعتادة.
وبحسب رئيس اللجنة المركزية للتصدير في اتحاد الغرف السورية إياد محمد، هناك آلاف العقبات أمام ملف الاستمرار في زراعة الحمضيات، بدءاً من ارتفاع الكلفة، وصولاً إلى الفرز والتوضيب، مروراً بتأمين الوقود، وتكاليف التخليص الجمركي. وكلّ تلك العوامل تضعف فرص المنافسة في الأسواق الخارجية وتجعل خيار استبدال شجر المانغا بشجر الليمون خياراً أفضل.
من حكومة الى أخرى
قبل أعوام، اقتلع المزارع محمد شهّال كل أشجار الحمضيات من أرضه الواقعة على الطريق الدولي طرطوس – اللاذقية، ليزرع عوضاً عنها أصنافاً مختلفة من الأشجار الاستوائية، وعن ذلك يقول: "ربح سريع، وبضاعة مرغوبة، وتكاليف أقل، وجهد أٌقل، وما لم تدعم الحكومة بصورة جدّية زراعة الحمضيات، فإن الزراعة تلك ستنقرض قريباً، الجميع اليوم يبحث عن بذور استوائية وعن صلاحية أرضه لتلك الزراعة".
وفي تلك الأراضي باتت تزرع فواكه جديدة على المجتمع السوري، أبزرها فاكهة التنين، المانغو العادية والمصرية، الموز الاستوائي الضخم، القشطة، الشوكولا السوداء، الأفوكادو، السابوتو، الكيوي، العنب البرازيلي، البابايا، وأصناف أخرى.
وفي ظلّ تكليف رئيس حكومة جديد قبل أيام تعذّر التواصل كما يقتضي الدستور السوري مع وزير الزراعة الحالي، لكنّ مصدراً مقرباً من الملف في الوزارة اكتفى بالقول لـ"النهار العربي": "فلنرَ إن كان ستظلّ هناك حمضيات في سوريا بحلول عشرة أو عشرين عاماً مقبلاً، هذه من أعقد الملفات التي تعاقبت عليها حكومات متعددة، ناقلةً إياها لمن يأتي بعدها من دون إيجاد حلول جذرية".