استمراراً للنزف البشري – المهني المتواصل، هاجر خلال الفترات الماضية نحو 3600 محامٍ من سوريا، قاصدين دول الاغتراب والمهجر. بعضهم سلك الطرق الخطرة نحو أوروبا، أو ما يسمّى "دروب الموت"، فيما اختار آخرون الهجرة الآمنة نحو دول الخليج، بحسب مصادر حقوقية.
وفرضت النقابة على المحامين المهاجرين دفع 500 دولار عن كل عام هجرة خارج بلدهم، لئلا يتمّ شطب أسمائهم من النقابة، وتالياً استحالة ممارستهم المهنة حال قرارهم العودة إلى وطنهم.
نقيب المحامين السوريين الفراس فارس.
أعلى النقابات دخلاً
كان ذلك العامل المتمثل في دفع البدل السنوي جزءاً من جملة عوامل مجتمعة، أفضت إلى جعل نقابة المحامين في سوريا واحدة من أعلى النقابات دخلاً، بميزانية تجاوزت 45 مليار ليرة سورية (3 ملايين دولار) بعدما كانت أكثر النقابات خسارة خلال الحرب، وأشدّها معاناة وتخبطاً، إلى أن تبدّلت الأحوال جذرياً وفق خطةٍ إداريةٍ وضعها المجلس المركزي لإعادة الاستثمار الآمن والصحي ووقف الهدر ومكافحة الفساد وبناء المدخرات المالية من جديد، إضافةً إلى استعادة أصول أموال ثابتة غير مستفاد منها.
يقول المحامي الفراس فارس، نقيب المحامين في سوريا المركزية التي تتبعها كل نقابات المحافظات ومحاموها، لـ"النهار العربي"، إنّ التحول في النقابة بدأ من العناوين الدقيقة للإدارة الصحيحة من شفافية والنزاهة والحوكمة والأداء السليم ووقف الهدر والضياع، مضيفاً: "قمنا بإجراءات عملية تمكنّا من خلالها من تحقيق هذه الموفورات والزيادات وإيرادات النقابة لتعود إلى الوضع الطبيعي، وهناك عوامل تقنية وفنية أخرى، والأهم هو الضبط والمتابعة والتحصيل الصحيح وتجفيف منابع الفساد وضبطها بصورة حازمة، فكل تلك الأشياء مرتبطة بعضها ببعض، ولا يمكن التغافل عن إحداها، لئلا يكون هناك بابٌ لثغرات جديدة تنهش في جسد واحدةٍ من أكبر النقابات وأكثرها أهمية مجتمعية".
من المعونة إلى الخيال
لا يحبّذ النقيب وصف النقابة في مراحل سابقة بالخاسرة، إنما يفضّل استخدام مصطلحات من قبيل أنها لم تتمكن من تحسين دخلها، مشيراً إلى أنّ النقابة المركزية طلبت في عام 2019 من الحكومة السورية معونةً مالية بسبب عدم تمكنها من تسديد الرواتب التقاعدية لمحاميها، ومعونات الوفاة وغيرها، "وشيئاً فشيئاً، تداركت النقابة هفواتها وتمكنت من الوصول إلى ميزانية كان التفكير فيها حلماً وخيالاً، وساهمت تلك الميزانية في تعزيز العطاء للمحامين وإعانتهم في المواطن التي يحتاجونها من وفيات إلى عمليات إلى صندوق سنوي وغيره".
يقول النقيب: "ربما يعلم الناس أننا بلغنا ميزانية 45 مليار ليرة سورية، لكنّهم لا يعلمون أننا استرجعنا أصولاً ثابتة كانت منسية منذ خمسينيات القرن الماضي، تعادل قيمتها نحو 70 مليار ليرة (4,5 ملايين دولار تقريباً)، ما كانت تعود علينا إلّا بنحو ألف دولار قبل استردادها".
جيشٌ من المحامين
يؤكّد فارس وجود نحو 45 ألف محامٍ في سوريا، وهو الذي اعترض في تصريحات سابقة على هذا العدد، مبيناً ضرورة إيجاد آليات ضبط دقيقة لتنسيب المحامين، وحتى قبولهم في جداول كليات الحقوق، "خصوصاً أنّ النقابة فوجئت في امتحان سابق أنّ طلبةً أو محامين كثراً لا يجيدون العربية"، لافتاً إلى وجود دراسة لفصل امتحان القبول بالنقابة بين خريجي الجامعات الحكومية والجامعات الخاصة، ومؤيّداً ضرورة اتخاذ هذه الخطوة التي بدأت بها هذا العام كليتا الإعلام والعلوم السياسية من إجراء امتحان معياري لقبول الطلبة بعد الثانوية.
يُشار في هذا الإطار إلى أنّ الجامعات السورية تقبل الطلبة في كلية الحقوق من دون امتحانات مسبقة، وفق نتائجهم والدرجات المطلوبة في الثانوية العامة، ما جعل الجامعات العامة على وجه الخصوص تخرّج آلاف الطلبة سنوياً، من دون أن يكون هناك سوق عمل لاحتضانهم. ولعلّ هذه الجزئية لعبت الدور الفصل في الهجرة المتنامية لخريجي كليات الحقوق.
بحثاً عن حياةٍ أفضل
تابع "النهار العربي" بين سجلات المحامين ودور العدل تعدادهم العام في المحافظات، فخلص إلى نسبٍ تقديرية تشير إلى وجود نحو 4 آلاف محامٍ بين متمرن وأستاذ في محافظة حمص وسط البلاد، وهذا عدد ضخم قياساً بمدينة طال الدمار أكثر من نصفها، وانخفض تعداد سكانها كثيراً خلال الحرب، إضافة إلى أضعاف هذا الرقم في دمشق وحلب، ويساويه أو ينقص عنه تبعاً للمحافظة.
يوضح النقيب أنّ هجرات المحامين جاءت "نتيجة الظروف المعيشية القاسية وظروف مناطق سكنهم، وما لحق بها من دمارٍ في الأبنية السكنية والبنى التحتية والخدمات، فضلاً عن دمار مكاتب بعضهم، وهي في مناطق راقية، فخسروا جنى عمرهم، وكان سفرهم اضطرارياً للبحث عن حياةٍ أفضل".
المؤكّد أن هؤلاء لن يعملوا في اختصاصهم القانوني في الخارج، بل سيعملون في أي تخصص آخر، ولو كان أدنى بمراحل. يقول المحامي هائل علوش، الذي اختار دبي بعد فشله سنين متواصلة من تحقيق نفسه في مهنة المحاماة في سوريا، لـ"النهار العربي": "أعمل الآن في معرض سيارات، راتبي يعادل 5 قضايا شهرية لو كنت سأحصل عليها في سوريا... وهل هناك إلّا من رحمه ربي يحصل على قضية أو اثنتين في الشهر؟".
قديم موثوق وناشئ يعاني
يوافق المستشار عادل جويخاتي على كلام النقيب، ويؤكّده مضيفاً: "هذا العدد الهائل من المحامين حال دون تمكنهم من الحصول على قضايا ووكالات دفاعية، ما جعل المهنة قائمةً على العلاقات الشخصية والأسرية والمجتمعية التي يمكن أن توفر عملاً أو قضيةً للمحامي".
ويضيف لـ"النهار العربي": "يجب الأخذ في الحسبان وجود أسماء كبيرة في المهنة منذ زمن ما قبل الحرب، وهي مرجع كبير لا يقلّل أحد من شأنها، لكنّها في الوقت نفسه تؤدي دوراً سلبياً في وجه المحامين الناشئين، وفي ذات الوقت يمكن أن تكون عنصراً إيجابياً حين قبول الجيل الجديد بمبالغ ضئيلة قياساً بالمحامين المشهورين".
ويتابع: "عموماً، تلك المشكلة المركبة أنهكت آلاف المحامين واتعبتهم، وهم في انتظار رزقهم، فوجد الآلاف أنفسهم لا يحصّلون قوت يومهم، فيهاجرون".
انتخابات وإجراءات تأديبية
رغم ذلك، يعيد النقيب التأكيد أنّ هذه المهنة بطبيعتها وتكوينها "هي مهنة اجتماعية، والدليل الانتخابات القائمة حالياً في النقابات والنقابة المركزية، وكيف حرّكت التفاعل الاجتماعي على صعيد البلد بأكمله، لطابعها الإنساني والاجتماعي والسياسي والمهني والنقابي".
ويؤكّد أنّ الظروف التي مرّت كانت قاسية على الجميع، لكنّها ستمرّ، "ونحن مهتمون بالمحافظة على دور النقابة، لذلك لا ندخر جهداً في محاسبة المحامين المخالفين للقانون تأديبياً، بعد ارتكابهم زلةً مسلكية أو مخالفة، بحسب نصوص القانون الواضحة والصريحة، وتتولّى النقابة اتخاذ الإجراءات التأديبية الرادعة التي يمكن أن تتطور بحسب المخالفة وفداحتها وضررها وإساءتها للمهنة النبيلة".
وتُعقد في هذه الأيام انتخابات على مستوى المحافظات ومستوى النقابة المركزية لانتخاب رؤساء وأعضاء مجالس جدد ضمن الدورات الطبيعية للنقابات والاتحادات، في ظلّ تدخلّ سياسي هو الأقل قياساً بدورات سابقة، بحسب مراقبين انتخابيين.