تشهد الحدود السورية – اللبنانية منذ أيام حركة نزوح من الجانب اللبناني عبر المعابر الشرعية نحو دمشق وحمص تحديداً. الحركة التي لم تتوقف على مدار أيام تسببت بازدحام غير مسبوق، حتى خلال سنوات الحرب السورية، وهو ما تؤكده الصور المتداولة من نقاط العبور ومن مصادر مشرفة على تسهيله، وكذلك التوصيات التي تلقتها مكاتب المتابعة والهلال الأحمر في المحافظات الحدودية المعنية.
حذر رسمي
ما زاد في إرباك المشهد هو اتخاذ قرار بمنع دخول وسائل الإعلام غير الحكومية وتصوير المشاهد أو إجراء اللقاءات هناك، وهو ما كان أيضاً ممنوعاً على الإعلام الرسمي نفسه خلال الأيام الأولى من بداية النزوح.
إضافةً إلى ذلك، تأكد وجود توجيهات من مختلف المستويات بعدم التصريح لأي جهة إعلامية كانت والإدلاء بمواقف وتفاصيل دقيقة تتعلق بالمشهد، وأفاد مصدر مطلع "النهار العربي" بأنّ ذلك الأمر ليس مرتبطاً بالتعمية أو إخفاء المشهد بقدر ما هو مرتبط بتدارك "الفوضى" التي تحصل في البدايات، ولئلا تكون التصريحات متضاربة، إذ يفضل أن تهدأ الأمور قليلاً ليكون هناك خطاب رسمي تلتزم ضمن قواعده كل المستويات، بمن فيها محافظو المناطق.
التوجيه العام الوحيد الذي يمكن اعتباره خريطة طريق عامة صدر عن رئيس الجمهورية بشار الأسد خلال توجيهاته للحكومة الجديدة التي تشكّلت قبل أيام، بقوله: "مع الساعات الأولى لعملكم يجب أن يكون العنوان الأساسي الآن في هذه الساعات وفي تلك الأيام، قبل كل العناوين الأخرى، كيف يمكن أن نقف مع أشقائنا في لبنان بكل المجالات وبكل القطاعات من دون استثناء ومن دون تردد؟".
ورغم ذلك فإنّ هذه الخريطة العامة سياسية بحتة، لذا كان لا بدّ من التأني في التصريحات التنفيذية والخدمية واللوجستية، وإن كان حصل خرق لذلك الأمر على صعيد تصريح أدلى به وزير السياحة في هذا المضمار، وكان ضرورةً لردع ممارسات تعرض لها اللبنانيون.
إحصاءات مركّبة
بحسب عضو المكتب التنفيذي لمحافظة دمشق آلاء الشيخ، بلغ عدد الداخلين إلى سوريا من معبر جديدة يابوس في ريف دمشق خلال يوم 26 أيلول (سبتمبر) حوالي 3900 لبناني، فيما دخل حوالي 1200 لبناني من منافذ حمص خلال يومي 24 و25 أيلول، يضاف إليهم أكثر من 10 آلاف سوري عائدين من لبنان، لتظلّ الإحصائية الأقرب، بحسب قول مصادر في مديريات الجاهزية لـ"النهار العربي" تتحدث عن وصول 10597 لبنانياً من المنافذ الرسمية في ريف دمشق فقط، حتى عشيّة 26 أيلول، بينما أكدت وحدة إدارة مخاطر الكوارث التابعة للحكومة اللبنانية أنه "خلال اليومين الأخيرين، سجّل الأمن العام عبور 15600 مواطن سوري و16130 مواطناً لبنانياً إلى الأراضي السورية".
رغم ذلك، فإنّ الحصيلة بمجملها غير واضحة ولا أحد يتمكن من تأكيدها بدقة، نظراً إلى أنّ كلّ المراجع تستند إلى بيانات الدخول والخروج من المعابر الشرعية، فيما اعتمد لبنانيون كثر الدخول عبر المعابر غير الشرعية التي قامت في فترات الحرب، والتي يتركز معظمها غرب حمص في محيط مدينة القصير المجاورة للهرمل في الأراضي اللبنانية، وبدرجة أقل عبر معابر الزبداني في ريف دمشق.
رفع الجاهزية
وتلقت إدارات الهجرة والجوازات الحدودية أوامر تتعلق برفع الجاهزية للدرجة القصوى وزيادة عدد العناصر العاملين لتسهيل إجراءات الدخول المباشر من دون تعقيدات، فيما تحرّك مسؤولون في جولات ميدانية نحو الحدود لتفقد الإجراءات وتذليل العقبات.
وأفاد مدير الدفاع المدني في حمص العميد الركن مهذب المودي بتحضير المحافظة لإنشاء 5 مراكز إيواء رئيسية تتسع لحوالي 40 ألف شخص، و9 مراكز إيواء احتياطية إذا تفاقمت الأمور، وتتسع لنحو 25 ألف شخص، على أن تكون تلك المراكز جاهزةً مباشرةً ومزودة بكل سبل الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وهاتف ومرافق صحية وأدوات مطبخية وأغطية وأسرّة وبقية المستلزمات الضرورية.
وأعلن مدير صحّة حمص الدكتور مسلّم الأتاسي أنه وجّه كل المستشفيات لوضع كوادرها مع منظومة الإسعاف السريع في حالة الاستنفار والتأهب القصوى، مع تدعيم منافذ حمص الحدودية: جسر قمار – جوسيه – دبوسيه – مطربا بسيارات الإسعاف والأطقم الصحية، وكذلك الأمر في دمشق بطبيعة الحال، فيما غابت معابر الساحل عن المشهد نسبياً.
الارتباط الجغرافي
ترتبط مئات أو آلاف العائلات اللبنانية التي تنحدر من الجنوب أو البقاع والهرمل تحديداً بعلاقات تاريخية وجغرافية ومناطقية وعشائرية، تحديداً مع مدينة حمص، وبدا ذلك واضحاً باستقبال عشرات القرى المحاذية للقصير على الشريط الحدودي، والتي شهد بعضٌ منها معارك ضارية خلال الحرب، الأسر اللبنانية النازحة. وكذلك فعلت أحياء متعددة في المدينة، ولعلّ أبرزها حيّ العباسية الذي استقبل الكثير من الأسر، أولئك القادمين عبر المعابر غير النظامية، والعابرين بتلك الطريقة بحكم عادات الزيارة والمرور التي درجت بين الطرفين في سنوات الحرب.
العائلات النازحة سكنت لدى أصدقائها وأقاربها من دون أن تتكبد مصاريف وإيجارات ومدفوعات. مهدي رعد الذي وصل مع أسرته من الهرمل إلى مدينة حمص، روى لـ"النهار العربي" أنّ حركة وصوله مع أفراد عائلته كانت يسيرة، ولم يكن لديهم شك في الحفاوة التي سيستقبلون بها لدى العائلة المستضيفة التي تربطها بهم علاقة صداقة قديمة.
يقول رعد: "منذ وقت طويل ونحن نضع خططاً للتوجه نحو سوريا إذا توسعت دائرة الحرب، وفي أيّ لحظة لم نكن نفكر في أننا سنكون لاجئين أو سنتكبد مصاريف كبرى، كنا نثق، كما غيرنا الكثير، من أن العلاقات العشائرية وتلك التي ربطتنا في الحرب ضمن ما نسميه 'إخوة' السلاح ستكون كافيةً لنجد مكاناً آمناً ومستقلاً للسكن".
ويضيف: "مستقبلونا منحونا شقةً مفروشةً لاحقاً لنكون أكثر ارتياحاً من دون أن يطالبونا بأيّ إيجار أو ثمن خدمات، بل على العكس، يرسلون لنا الغذاء ويتفقدون أحوالنا، وهذا كما قلت، شيء متبادل، في الحرب تلك وهذه نحن ظهر وسند لبعضنا بعضاً".
"آفة النّفس البشرية"
لكن، وفيما حصل الكثير من العائلات على استقبال مرحب، واجهت عائلات كثيرة إرباكاً، فمجرد ذكر تجهيز مراكز إيواء هو أمر مقلق، على ما يقوله النازح وأسرته من الجنوب اللبناني جلال حميّة الذي فوجئ بأنّ سوريين كانوا ينتظرون لحظات كهذه، بمعزل عن الموقف السياسي والعقائدي والاجتماعي، ليتمكنوا من الاستفادة المادية المبالغ بها عبر النازحين.
ويشرح حمية: "عموماً كثيراً ما يتردد اللبنانيون إلى سوريا، شريحة كبيرة، بسبب ودونما سبب، سياحة أو زيارة أو خلافه، ونعرف مسبقاً الأسعار، ولكن فجأة تضاعفت أسعار الإيجارات والمواد الغذائية وكل شيء، هذا بالضبط حدث استغلالي غريب".
وهو ما حدث مع النازح محمد وهبي في حمص، إذ حاول الحصول على شقة مفروشة للإيجار، وفوجئ بأنّ بعض المكاتب تطلب ألف دولار شهرياً لقاء ذلك الإيجار، فيما الشقق نفسها قبل أسابيع لم يكن يتخطى إيجارها مئتي إلى ثلاثمئة دولار، وهو ما دفعه لقاء 15 يوماً، على أمل أن تنفرج الأمور قريباً.
"الفنادق المتخاذلة"
الأمر نفسه ينطبق على قطاع الفنادق، وإن كان الحديث عن حمص، فإنّ المدينة لا تحتوي إلا بضعة فنادق، بينها اثنان فقط من فئة 4 نجوم والبقية أقل، ويفترض أن تكون أجور الليلة لغير السوري نحو 50 إلى 80 دولاراً، ولكنّ نازحين وصلوا إلى حمص فوجئوا بأنّ تلك الفنادق طلبت أجوراً تتراوح بين 160 و200 دولار لليلة.
إسراء عباس مواطنة لبنانية، وصلت إلى حمص وحاولت الحصول على غرفة لها ولطفليها في أحد الفنادق، لكنّها صدمت بأنّ الأجرة تبلغ 200 دولار في الليلة، وهي التي كانت تتردد إلى حمص بحكم عملها وتنزل في الفندق بثلث ذلك السعر قبل فترات ليست بعيدة.
تناهت تلك الأخبار إلى وزير السياحة السوري محمد مارتيني الذي خرق حصار التصاريح، وأوضح أنّ معلوماته الآن أنّ جلّ الفنادق باتت ممتلئة، ولكن ذلك لا يعني السماح لأصحابها بتقاضي تلك الأجور خاصة في حمص، وهو ما ستتم محاسبتهم عليه قانوناً، وصولاً إلى الإغلاق المفترض كعقوبة، ولكن على أن يتم ذلك في الوقت المناسب نظراً إلى حاجة الدولة لتلك الفنادق نظراً إلى الأوضاع الحرجة إقليمياً والحاجة إليها كمناطق إيواء.
الفائدة الاقتصادية
في المنظور الاقتصادي، فإنّ سوريا تحتاج أولئك النازحين مرحلياً لدواعٍ متنوعة ومتباينة تصبّ جلّها في إطار الصراع القائم والمستمر، وهو السبب الذي لن يحوّل هؤلاء النازحين إلى لاجئين، ويمكن بسهولة لحظ أنّ الدولة السوريّة لم تطلق عليهم لفظ لاجئين، فيما تركز على وصفهم بالنازحين، وعلى ذلك تترتب آثار تعود إيجاباً.
يختلف المشهد اليوم تماماً عن حرب تموز (يوليو) 2006، والبيوت المفتوحة بأسرها للعائلات النازحة، فالمشهد الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي تبدّل بصورة تامة، وباتت سوريا اليوم تحتاج من هؤلاء النازحين تحريك عجلة الاقتصاد جزئياً في مناحٍ مختلفة أهمها رفد الخزينة بما أمكن من القطع الأجنبي، إضافةً لرسوم إدخال السيارات اللبنانية بالدولار وضرورة تجديد تأشيرتها بين وقت وآخر قصير نسبياً، مع الأخذ في الاعتبار أن سيارات كثيرة رافقت العائلات الداخلة، ومن شأن ذلك استفادة العديد من القطاعات من المال اللبناني الذي يمكن أن يحرك شيئاً من الركود.
بين 2006 و2024
وفي الحديث عن حرب تموز 2006 وما يحصل اليوم من تبدّلات في المشهد، فإنّ أكثر ما يوضح ذلك هو نهوض تيارين سوريين، إلى جانب التيار المرحب بالنازحين، واحد يرفض استقبال أي لبناني والآخر يرحب به لمصلحة.
الأول يستند إلى رؤيته المتعلقة بأنّ هؤلاء النازحين قادمون من بيئة ترتبط بمقاتلين لبنانيين كانوا في الاصطفاف المعاكس لهم خلال الحرب السورية التي أفضت إلى كلّ ذلك الدمار، وبطبيعة الحال هو التيار الأضعف، لكون معظم مؤيديه يرسلون آراءهم من خارج سوريا.
والثاني يريد الاستغلال بينما تسعى جهود رسمية لوقفه من دون أن تتمكن من لجمه.