ليل السابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) ساد صمت مطبق في شوارع مدن الداخل السوري إثر تواتر أخبار عن إمكان نجاح إسرائيل في اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني السيد حسن نصر الله، هذا الصمت المطبق ما كان ليخرقه سوى تأكيد نبأ مقتله في اليوم التالي.
مأتم جماعي
صارت المدن الرئيسية وكأنّها في مأتم عام، كانت تسهل ملاحظة إغلاق المحال أبوابها، وأناس يبكون في الطرق، وأحياء وبلدات أغلقت مداخلها ودوّت داخلها أصوات إطلاق رصاص لساعات طوال.
ذلك الصمت ما كان ليذكّر سوى بخلو الشوارع إبان حرب تموز (يوليو) 2006 حين كان الناس يتسمرون في منازلهم أمام الشاشات منتظرين أخبار جبهة الجنوب وتطورات المعركة، يوم كانت سوريا كلّها على قلب رجل واحد.
أصحاب المأتم الجماعي الذي تحوّل في مناطق كثيرة إلى شوادر عزاء تشاركوا مع مقاتليه الحرب في الساحات على امتداد الجغرافيا السورية، وهم، كما يقولون، مدينون له بموقفه التدخل في لحظة مفصلية من الحرب السورية.
يتذكر أولئك جيّداً إعلان نصر الله تدخل حزبه عسكرياً في سوريا بقوله عام 2013: "طريق القدس يمر بحلب والقلمون والزبداني والحسكة"، وما تلاه من عشرات الخطابات والكلمات، وإن كان التدخل الفعلي قد بدأ في وقت سابقٍ، ومن القصير المحاذية للهرمل بدايةً.
"كارثة ستخلق فجوة"
يصف الحاج إدريس غنّام المقيم في حمص والذي يستقبل الآن إحدى العائلات النازحة من لبنان أنّ "اغتيال السيّد هو كارثة ستخلق فجوةً لن تسدها الأيام مهما طالت، ورغم أنّ المقاومة ولّادة، ثمّة أشخاص لا يتكررون".
ويضيف: "قال السيّد إنّ بيننا وبينهم الأيام والليالي والميدان، وإنّه باقٍ معاً، ونحن نصدقه، ثمّة حالة رفض جماعي تسكن اللا وعي لدى الناس بأنّه ما زال حياً، وفي أيّ لحظة سيظهر، لا أحد يريد تصديق الخبر، لأنّ شخصاً مثله يمثل المشروع والإيمان المطلق لا يموت تاركاً إيانا في هذه اللحظة المصيرية من عمر الصراع".
"هنا تختلف المعادلة"
يوافق الشيخ غالب مأمون المقيم في حمص على كلام غنام، إذ يقول: "اللهم لا اعتراض لا حكمك، لكنّ رجالاً غزا الشيب شعرهم شعروا لتوّهم أنّهم الآن صاروا أيتاماً مكسورين وهم الذين عاصروا كل انتصارٍ ممكن ومتاح، وكانوا ينتظرون الفرج الإلهي عاجلاً غير آجل".
ويضيف: "رحل (القادة في حركات المقاومة) الموسوي وحرب وسليماني والمهندس والعاروري وأحمد ياسين وهنية وشكر وغيرهم من الميامين ولم تنكسر المقاومة، لكنّ السيد سكنَ وجدان هذه الأمّة ثلاثينَ حولاً من الدهر، أجيال من الرجال والشباب شبّوا على خطاباته وانتصاراته وأفعاله، لكن هنا تختلف المعادلة، الناس انكسرت قلوبهم لأنّهم خسروا أخاً صادقاً أميناً لطيفاً مطمئناً ومُطمئِناً لهم في كل معترك كان يبدو النجاة منه مستحيلاً".
اتهامات بالتخاذل
تباينت الآراء حول اغتيال نصر الله، حتى داخل الصف الواحد، آراء عبّر عنها العديد من الناس في الشارع وفي مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرين أنّ ما حصلَ هو مزيج من اختراق وخذلان وتآمر.
تلك المشاعر يعبّر عنها مؤنس رضا المنحدر من منطقة السيّدة زينب في ريف دمشق، والذي قاتل إلى جوار مقاتلي "حزب الله" في أكثر من معركة، بقوله: "لقد باعوه وقبضوا الثمن، لقد وضعوه ووضعونا على بازار المقايضة السياسية بغية تحقيق أهداف استراتيجية تُعنى بها دول كثيرة، وكان الثمن رأس شخصٍ لن تستطيع امرأة ولادة مثله".
ويتابع: "أن تموت متروكاً مخذولاً أقسى ألف مرّة من أن تموت وصدرك للعدو في ساحة مفتوحة، كيف يُختَرق أشدّ أنظمة الحماية الأمنية تعقيداً، وإسرائيل تبحث عن أثره منذ 18 عاماً؟ نعم التكنولوجيا المتطورة لعبت دوراً، والاختراق لعب دوراً أكبر، وعاجلاً سندفع ثمن رحيل رجلٍ بهذا الحجم".
مهندس التحرير
ضابط سابق رفض الكشف عن اسمه تحدّث لـ"النهار العربي" عن الجبهات التي جمعت قواته بمقاتلي "حزب الله" في أكثر من معركة، مبيّناً الطبيعة السرّية التي كانت تلف عملهم، وحرصهم في أدقّ التفاصيل حتى على سبيل استخدام أسماء مستعارة، وكان يصعب الوصول إلى أسمائهم الحقيقية حتّى.
ويضيف: "كان أولئك الرجال مؤمنين بتكليفهم الإلهي، وسائرين خلف خطى السيّد وتوجيهاته حرفياً ومن دون اعتراض، مدركين أنّه خير من يدير كفّة الصراع، وخير من عاشوا ليقاتلوا تحت رايته، رحيله اليوم نكسة لم يشعر بها الجميع بعد، فالراحل كان مهندس تحرير الجنوب عام 2000، وانتصار تموز 2006، والتدخل الحاسم في سوريا، ومعركة الإسناد التي بدأت في 2023 وأربكت حسابات العدو".
على المقلب الآخر: احتفالات وحلويات
الجمهورية السوريّة أعلنت الحداد ثلاثة أيام، ونكّست أعلامها في الداخل، وكذلك أعلام سفاراتها وقنصلياتها ومنظماتها في الخارج، وامتزجت مع نسيجها الداخلي في حالة الحداد العام، والمأتم الجماعي، لكن على المقلب الآخر بدا المشهد معاكساً تماماً.
والمقلب الآخر هو مناطق سيطرة المعارضة وتنظيماتها كـ"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، إذ أقيمت هناك احتفالات ما زالت مستمرة وفيها وزعت الحلويات وتجمهر الناس يطلقون أهازيج وهتافات فرحةً باغتيال نصر الله.
وموقف هؤلاء كان متوقعاً، فمعظم المحتفلين هم من المقاتلين المعارضين وعوائلهم الذين خسروا معارك مدنهم فنزحوا إلى إدلب، ويرون في الحزب وأمينه العام إلى جانب الجيش السوري وبقيّة التشكيلات المتحالفة معهم ألدّ أعدائهم، بل يحمّلونهم مسؤولية تهجيرهم ودمار بيوتهم.
"أياً كان قاتله. فشكراً"
"النهار العربي" تواصل مع شاب اسمه عثمان عبد الباسط، ينحدر من حي الخالدية في حمص، وقد شارك في معارك ضدّ الجيش والحزب قبل أن يسقط الحيّ ويلقي سلاحه مغادراً إلى إدلب، حيث استقر هناك قليلاً، ومن ثم اتجه إلى ولاية غازي عنتاب في تركيا، حيث هو مقيم الآن منذ سنوات. يقول: "ليس أهلنا في إدلب فقط من احتفلوا، هنا في تركيا أيضاً احتفلت الجاليات بمقتل من شرّدنا وجوّعنا وهدّم منازلنا، ماذا كان يتوقع منّا الناس؟ أن نحزن ونقيم الأتراح، ونقول لقد قتله الإسرائيليون اللئام لذا هو بطل، كلّا، أياً كان قاتله فشكراً له".
استخدم عبد الباسط مصطلحات عنيفةً جداً في توصيف الحالة العامة، وهذا متوقع في إطار صراع السوريين المذهبي والفكري والعقائدي والاجتماعي والسياسي أخيراً، ولم تكن آراء من أتيح لـ"النهار العربي" التواصل معهم في إدلب أقلّ حدة، أحدهم قال: "لو يقتلونه ألف مرّة لن نحتفل بأقلّ من هذا في كلّ مرّة".
أسرى في مناطق النزوح
مدرّس عاش معظم حياته في مدينة جرمانا في ريف دمشق، وهي مدينة ظلّت مواليةً للنظام، له قصتّه الخاصة عن سبب وجوده في إدلب. لا يريد المدرس ذكر اسمه لأسباب يمكن إيضاحها، فهو ينتمي إلى الطائفة الدرزية، وينحدر من مجموعة القرى الدرزية في إدلب، لسوء حظّه قررَ زيارة أهله هناك قبل سنوات، وخلال زيارته سقطت المدينة وأريافها تحت سيطرة "جبهة النصرة" ولا تزال، كان الدروز بادئ الأمر قد تعرضوا لمجزرة، ثم جرى تحييدهم مع وضعهم تحت المراقبة اللصيقة في قراهم تلك.
الجبهة منعت المدرس من العودة، وعينته مديراً لمدرسة ابتدائية براتب مئتي دولار شهرياً، كان التواصل معه أكثر سهولةً لشرح الموقف وتبيان تفاصيل المشهد في المدينة وريفها.
يقول: "ليس أنّ بعض الناس يحتفلون فقط، الجميع يحتفلون، حتّى أنّهم أخرجوا طلاب المدارس ليحتفلوا في أوامر مباشرة من الهيئة الشرعية، الضحكات التي تعتلي الوجوه هنا لا تصدق، لو كان قتل نتنياهو نفسه لما كانوا في هذه السعادة، وسأخبرك لماذا، لأنّهم رفعوا لافتات شكروا فيها نتنياهو على قتله السيّد".
ويضيف: "هناك حالة جماعية شاملة ترى في مقتل نصر الله انتصاراً مؤجلاً ومنتظراً وعقاباً على معارك خسروها بالجملة، وأنّ رحيل شخص مثله سيسهل الأمر أكثر في معارك مقبلة، معتقدين أنّ الحزب تفتت في بنيته وشخصيته، وكما أنّ المؤيدين حاقدون على "داعش" والنصرة والجيش الحر، فالمعارضون حاقدون على الحزب والجيش والحشد وغيره، ولا يمكن إغفال الجزئية المتعلقة بأنّ كثيراً من ذلك الحقد ينطلق من إذكاء الصراع وصبّ الزيت فوق ناره طوال عقد ونصف".