انتهت مجالس المحافظات في العراق من تسمية مناصب السلطتين التنفيذية والتشريعية، عدا محافظتي ديالى وكركوك اللتين تشهدان صراعات سياسية ومذهبية وقومية تحول دون ذلك حتى الآن، إذ عاودت القوى المتنفذة والأحزاب السياسية التقليدية، عدا التيار الصدري (المقاطع للعملية السياسية) سيطرتها على تلك المجالس، عبر بوابة الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت منتصف كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي.
ويتطلع أبناء المحافظات، الذين عانوا كثيراً من تلك المجالس، إلى الحصول على الخدمات وإنجاز المشاريع المهمة الخاصة بالبنية التحتية وغيرها في مناطقهم التي تقاسي الإهمال لأكثر من عقدين من الزمن.
صلاحيات واسعة... ومعارضون
وتتمتع مجالس المحافظات بصلاحيات واسعة، على رأسها انتخاب المحافظ ووضع ميزانيات الصحة والنقل والتعليم من خلال تمويلات مخصصة لها في الموازنة العامة التي تعتمد بنسبة أكثر من 90% من إيراداتها على النفط.
معارضو وجود مجالس المحافظات يرون أنها "أوكار للفساد تعزز الزبائنية". هكذا ينعتها وائل عبد اللطيف، محافظ البصرة الأسبق، الذي يقول في حديث خاص بـ"النهار العربي" إن القوى السياسية القابضة على السلطة تعهدت بإجراء انتخابات مبكرة، لكنها بدلاً من ذلك أحيت مجالس المحافظات المنحلة، في ما وصفه بأنه "مجرد إشغال للشارع"، فيما يقول النائب المستقل أمير المعموري إن مجالس المحافظات هي "الرهان الأخير" بين الشعب والقوى السياسية: "نأمل أن تكون مجالس المحافظات الحالية فعالة وإيجابية"، وفق ما يأمله.
ويقول المعموري لـ"النهار العربي" إن الشارع وحتى القواعد الشعبية للقوى الفائزة بالانتخابات "تنتظر من مجالس المحافظات تأدية المهام المناطة بها دستورياً وقانونياً".
حسابات سياسية لمجالس محلية
وسيطرت قوى وأطراف الإطار التنسيقي على الحكومات المحلية في العاصمة بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية، لعدم وجود قوى منافسة، يمكن أن تبعد تلك القوى من المشهد، وبالتالي فإنها بدأت الآن التعويض عن مرحلة حل المجالس المحلية، تحت ضغط "انتفاضة تشرين" الأول (أكتوبر) في عام 2019.
يقول عبد اللطيف إن نتائج الانتخابات أثبتت أن تأثير قوى "الإطار" في العمل السياسي "سيكون هامشياً"، لأن عدداً من المحافظين صمدوا بوجه تلك القوى وقواعدها الشعبية، وثلاثة منهم (محافظو البصرة، كربلاء وواسط) كسروا قرار "الإطار" بإبعاد جميع المحافظين من مناصبهم، الأمر الذي أثار قلقاً لدى الإطاريين.
يذكر القاضي والوزير السابق أن كتل "الإطار" في محافظات الوسط والجنوب، تُدرك جيداً أن بقاء هؤلاء المحافظين في مناصبهم "يقلص مصالحها ويعرقل مشاريعها السياسية".
ويخلص عبد اللطيف إلى القول إن مجالس المحافظات لم تقدم شيئاً للشعب منذ عام 2005: "لم تزل أزمات البطالة والفقر والدولار تتفاقم، إلى جانب القطاع الخدمي المتراجع كثيراً".
تجارب سيئة
التجارب السابقة للناخبين مع مجالس المحافظات كانت سيئة، وأثارت استياءً لدى الناس بسبب الخلافات والصراعات السياسية التي انعكست على عملها: "هذه التجارب يجب أن تكون درساً مهماً لأعضاء المجالس المحلية الجدد. عليهم أن يتجنبوا تكرار المأساة"، بحسب المعموري.
ويتابع أن تلك الصراعات التي كانت قد حُصرَت بالمنطقة الخضراء بعد حلّ المجالس المحلية، أخذت تنسحب باتجاه المحافظات الآن، حيث "برزت خلافات وانقسامات حادة بين القوى السياسية"، بمجرد العودة لمبدأ المحاصصة في تشكيل تلك الحكومات.
ويحذر النائب المستقل من أنّ "آلية الاختيار بهذه الطريقة ستكون لها انعكاسات على الشارع. نأمل أن تهتم القوى المسيطرة على القرار المحلي بالخدمات المقدمة للمواطنين".
الكثير من النواب لم يظهروا ارتياحاً لعودة المجالس المحلية، إنما يعدّونها "حلقة زائدة"، وأحدهم النائب المستقل ياسر إسكندر الذي لم يكن مؤيداً لعودتها للمحافظات.
يقول إسكندر لـ"النهار العربي" انّ مجالس المحافظات "دمرت البنية التحتية في محافظاتنا"، مردفاً "إننا مجبرون على اختيار ممثلين لنا فيها".
مطلب تشريني
وكان حلّ مجالس المحافظات وغلق مقار الأحزاب السياسية في عموم المحافظات، قد تصدرا سلّم الأولويات لدى المتظاهرين في "انتفاضة تشرين" عام 2019.
ويربط إسكندر العودة إلى المجالس بمحاولة القوى السياسية التقليدية "إعادة التموضع في المحافظات"، منبّهاً إلى أن "الصراعات السياسية التي رافقت الجلسات الأولى لتلك المجالس، تجعلنا ندرك أن العمل لن يكون بأفضل حال من السابق".
ويجادل النائب بأنّ تلك المجالس "ستكون معرقلة لعمل الحكومات المحلية ومشاريعها الخدمية للناس، وبالتالي فإنها ستتحمل العبء".
وتوزعت الخلافات على مناصب المحافظين بين سياسية وعشائرية ومذهبية كون "الموقع الجغرافي والثروات والمنافذ الحدودية تتحكم بحدة الصراع"، وفقاً للقيادي في "ائتلاف دولة القانون" حيدر اللامي.
يقول اللامي لـ"النهار العربي" إنّ ما يقلص تلك الخلافات هو الاختيار الصحيح للشخصيات في مناصب المحافظين ورؤساء المجالس المحلية: "إنه العامل الوحيد لتحقيق الاستقرار في المحافظات".
ويضيف أن بعض الحكومات المحلية ستتهاوى خلال شهر أو شهرين بسبب "تسنّم بعض الشخصيات لمناصب رئاسة الحكومة المحلية، بينما تحيطها اتهامات بملفات فساد، أو إرهاب، أو تزوير وغيرها"، مشيراً إلى أن وجود تلك الشخصيات على رأس السلطة التنفيذية في بعض المحافظات "يضع الاستقرار السياسي فيها على المحك"، في إشارة إلى رفض رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، السبت الماضي، المصادقة على تعيين أحمد الجبوري، المعروف بـ"أبو مازن"، محافظاً لصلاح الدين، مشيراً إلى أن انتخابه مخالف للقانون، كونه محكوماً بقضايا جنائية عدة.
ويعوّل اللامي على المحكمة الاتحادية العليا في ضبط بوصلة العملية السياسية من الناحية الدستورية: "منعت في مرحلة ما بعد النتائج الانتخابية البرلمانية، حالة التنمر السياسي التي رافقت بعض الكتل".
ويلفت إلى أن بعض القوى تحاول أن تتنمر في مجالس المحافظات و"ربما نشهد تدخلاً للمحكمة في هذا الصدد".
ويقول عبد اللطيف إن "تحالفات القوى السياسية بمختلف مكوناتها لا تحكمها وحدة الخطاب أو التآخي، لكنها تدرك أن تفرّقها يعرضها لتمزق كبير. الشعب لم يعد يثق بهؤلاء، وينتظر حكومة تنتشله من واقعه المزري في مختلف القطاعات".