بمرور الذكرى السادسة والثلاثين لارتكاب "جريمة الأنفال" التي نفذها النظام العراقي السابق بحق عشرات الآلاف من المدنيين الأكراد، في أواخر الحرب الإيرانية - العراقية، تجددت المطالبات السياسية والحقوقية الكردية الداعية إلى معاقبة المرتكبين وتقديمهم إلى القضاء، وإلى تعويض ذوي الضحايا وإعادة إعمار المناطق التي تعرضت لتلك الإبادة الجماعية، وإصدار قوانين وتشريعات حامية تمنع تكرارها.
الزعيم السياسي الكردي والرئيس الأسبق لإقليم كردستان مسعود بارزاني أصدر بياناً في المناسبة ندد فيه بـ"الجريمة النكراء التي ارتُكبت بحق الشعب الكُردي، وحاولت إبادته جماعياً"، مذكّراً بفشل مرتكبي تلك الجريمة في تحقيق مآربهم وبـ"الجراح التي لم تلتئم، والأبواق الشوفينية داخل الدولة العراقية التي تعادي الكُرد ولا تزال حية".
بارزاني جدد المطالب الكردية بتحقيق العدالة للضحايا، مذكراً الدولة العراقية بواجباتها الدستورية، قائلاً إنه "يقع على عاتق المؤسسات الرسمية في الدولة العراقية واجب العمل على التعويض عن كل جرائم الأنفال والإبادة الجماعية والظلم بحق شعب كردستان، وينبغي منع كل المساعي والسياسات المشؤومة التي تنظر إلى حقوق شعب كردستان من منظور الشوفينية والإنكار".
قائمة الجناة بالمئات
وبحسب الوثائق التي قدمها إقليم كردستان إلى الجهات التحقيقية التابعة للمنظمات الدولية، فإن أعداد ضحايا "جريمة الأنفال" يناهز الـ1982، أغلبيتهم المطلقة من المدنيين العُزل، من مختلف مناطق إقليم كردستان، راح أغلبهم ضحايا مقابر جماعية تم تنفيذها في صحراء محافظة السماوة جنوب العراق، فيما كانت قائمة الجناة تضم مئات عدة من القادة العسكريين والأمنيين في النظام السابق، لم تتم محاكمة إلا العشرات منهم فحسب، من رأس هرم القيادة السياسية والعسكرية للنظام السابق.
المؤرخ والباحث نعمان فوزي شرح في حديث إلى "النهار العربي" المجريات التي حدثت وقتئذ بحق المدنيين الأكراد، قائلاً: "منذ أوائل عام 1988، عقب تيقن النظام العراقي من ضرورة القضاء على المقاتلين المتمردين الأكراد لإنهاء الحرب مع إيران، قاد ثماني حملات عسكرية متتالية ومركزة على البيئات الريفية الكردية، التي كانت فعلياً خارج سيطرته. فيالق من الجيش وآلاف عناصر أجهزة الأمن كانوا يبدأون الهجوم على منطقة ريفية بذاتها، يُحاصرونها ويهاجمونها قرابة شهر، يجمعون آلاف المدنيين من أهالي قوات البيشمركة، ثم يرسلونهم إلى مدينة كركوك، ومنها إلى مناطق جنوب العراق، حيث تمت تصفية الأغلبية العظمى منهم، مع ادعاء وقوعهم ضحايا أثناء عمليات التجميع".
يضيف فوزي: "سُمّيت الحملة بهذا الإسم لأن بيان إعلان النظام العراقي عنها افتُتح بآية من سورة الأنفال القرآنية، في 14 نيسان (أبريل) عام 1988، وشملت ثماني مراحل متتالية، بقيادة الفيلقين الأول والخامس من الجيش العراقي، اللذين انطلقا من محافظتي كركوك وأربيل. وبدأت الحملة بمدينة السليمانية وأريافها، ثم امتدت منها إلى منطقة قرداغ وبازيان جنوبها، وتوسعت بعد شهرين لتشمل حدود منطقة كرميان ومنها إلى ضفتي نهر الزاب الصغير، وتوسعت إلى منطقة أربيل وبارزان ومحافظة دهوك. استخدمت خلالها الأسلحة الكيماوية والبيولوجية وكل أدوات القتل. كانت كل الدوائر الاستخبارية والخدمية في تلك المناطق مُلزمة بتقديم المعلومات والمساعدات اللوجستية لتنفيذها".
على رغم اكتشاف العشرات من المقابر التي ضمت جُثث الضحايا الأكراد الذين دُفنوا أحياء خلال تلك الحملة، في الكثير من مناطق العراق، وإلى جانب الآلاف من الشهادات وتقارير اللجان التحقيقية، إلا أن الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية الكردية تشكو مما تسميه "عدم جدية السلطة والدولة العراقية" في التعامل مع هذا الملف باعتباره أفظع جريمة إبادة تم تنفيذها بحق فئة من الشعب العراقي، على أساس عرقي وسياسي واضح، طالت بالذات المدنيين من أطفال ونساء.
"غسل ماء الوجه"
الأوساط الكردية تقول إن الجهات العراقية تعترف بجريمة الأنفال من باب "غسل ماء الوجه" فحسب، من دون محاولة للتعمق في الأسباب الأيديولوجية والسياسية التي أدت إليها وسمحت لعشرات الآلاف من الجنود والأمنيين العراقيين بالانخراط في هذه الإبادة الجماعية الجماعة الكردية. ولأجل ذلك تطالب بمجموعة من الإجراءات السياسية والدستورية الرادعة تماماً، المانعة لإمكان تكرار مثل تلك الجريمة بأي شكل مستقبلاً، مهما كانت الظروف والخلافات السياسية بين الأكراد وأي نظام سياسي في العراق، وهو ما تعتقد أن مؤسسات الدولة العراقية والقوى السياسية المركزية في البلاد لا تأخذه على محمل الجد والمسؤولية.
المطالب الكردية
تتوزع المطالب الكردية على ثلاثة مستويات: الأول إجرائي يتعلق بتشكيل مؤسسة خاصة بضحايا هذه الجريمة وذويهم، تعويضهم وإعادة الاعتبار الرمزي والمادي لهم، ومنح الأولية لمناطقهم وتنميتها إدارياً واقتصادياً، والبحث الجدي والمسؤول عما بقي من مقابر وتحديد هويات الضحايا ودفنهم بطريقة لائقة.
المستوى الثاني حقوقي يتعلق بمتابعة المئات من المرتكبين، ومنعهم من الاستفادة من حالات العفو العام أو التنصل من العدالة بسبب ترهل الإجراءات وسوء أداء المؤسسات القضائية.
والمستوى الأخير اتخاذ إجراءات دستورية وسياسية وتعليمية، تصنف الأنفال كجريمة شنيعة تستهدف الجنس البشري على أساس العرق، ووضعها ضمن المناهج التربوية والقيم العليا للمجتمع العراقي، وإقرار قوانين عقابية ضد كل من ينكرها أو يشكك بها.