شهدت زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لبغداد الاثنين توقيع 26 مذكرة تفاهم في مجالات الطاقة والزراعة والمياه والصحة والتعليم والأمن، لكن إردوغان رهن إتمام تلك الاتفاقات بإخراج "حزب العمال الكردستاني" الذي تصنّفه أنقرة إرهابياً من مناطق شمال العراق.
إردوغان الذي لم يحصل على وعد عراقي بإبعاد الـ"PKK" من منطقتي قنديل وغارا، شمال العراق، لم يقدم هو أيضاً خلال المؤتمر الصحافي مع رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، أي تعهد بصدد أزمات المياه والنفط وغيرهما، رغم أن الرجلين يحاولان تصفير أزمات بلديهما لضمان تحقيق نتائج انتخابية تضمن لهما البقاء في منصبيهما، وفق مراقبين.
وكان إردوغان قد زار العراق في عام 2011 حين كان رئيساً للوزراء؛ وفي حينها حضّ الحكومة العراقية التي يقودها نوري المالكي على التعاون مع أنقرة في مواجهة عناصر "حزب العمال الكردستاني".
اتفاقات هشة
يقول النائب العراقي ثائر الجبوري، عضو لجنة المياه والزراعة والأهوار، إن الاتفاقات التي وُقّعت بين بغداد وأنقرة لا يمكن وضعها تحت أي مظلة قانونية، وهذا ما كان يريده إردوغان كي يكون في مأمن من التنصل من تفاهماته مع العراق، طبقاً لرأيه.
ويضيف الجبوري في تصريح لـ"النهار العربي"، أن "التعهد التركي بإطلاقات مائية لمدة عشر سنوات، لا يرقى إلى مستوى اتفاق استراتيجي مع العراق بعدم قطع المياه أو إنشاء السدود، بل إنه من المحتمل إذا غادر إردوغان منصبه فإن من سيأتي بعده قد يترك الاتفاق والعمل به".
ويشير الجبوري إلى أن زيارة إردوغان للعراق "عكست انطباعاً سيئاً لدى الشعب العراقي، بسبب تلويحه بأنه الراعي والمسؤول الأوحد عن أي اتفاقات، كما أنه تعامل بأريحية عالية في اختيار لقاءاته وأماكنها وموعد زيارته".
تموضع تركي جديد
يقول المراقب للشأن السياسي الدولي أحمد الموسوي إن تحركات إردوغان الخارجية وزيارتيه لبغداد وأربيل تعكس تموضعاً خارجياً جديداً وهاجساً من تآكل شعبيته في الداخل التركي، مشيراً إلى أنه طرح على بغداد اصطفافاً عراقياً ـ تركياً لمكافحة "العمال الكردستاني"، في مقابل إيجاد حلول مناسبة لمشكلتي المياه وتصدير النفط.
ويضيف الموسوي في حديث لـ"النهار العربي"، أن بغداد وأنقرة تسعيان لتحسين العلاقات وتقويتها عبر مذكرات التفاهم بين البلدين، وأن "القضايا العالقة سياسياً وأمنياً واقتصادياً تحتاج لحلول تصنع استقراراً حقيقياً".
ومنذ عقود يشكو العراق من ضعف المنسوبات المائية لنهري دجلة والفرات من (دولة المنبع) تركيا، الأمر الذي فاقم مشكلات التصحر والجفاف، وانعكاس ذلك على الأمن الغذائي للعراقيين والتغير المناخي.
وطبقاً لوزارة الموارد المائية فإن العراق لا يتلقى سوى عُشر التدفق الأصلي من إيران، وثلثه من تركيا. وأن عواقب ذلك تبدو واضحة في كل محافظة عراقية.
وبدأت المشكلة المائية بين العراق وتركيا في منتصف السبعينات من القرن الماضي، إثر إنجاز تركيا بناء سد كيبان الضخم وتخزين المياه فيه، ما أدى إلى نقص المياه في العراق إلى حد كبير، وانتهت بسد إليسو الذي افتتح عام 2018.
الملف الأمني
ويستخدم الجيش التركي الطائرات الحربية والمسيرات والمدفعية والقوات البرية لمطاردة "حزب العمال الكردستاني" المنتشر في المناطق الحدودية وفي قضاء سنجار غرب الموصل، في ظل عدم قدرة الحكومة العراقية على الحد من نفوذ الحزب.
وبحسب مراقبين، فإن الحكومتين العراقية والتركية أبرمتا اتفاقاً أمنياً على إنشاء منطقة عازلة لتقليل النفوذ التركي في المنطقة، ولتجنب استمرار مسلسل سقوط الضحايا من المدنيين العراقيين، بسبب العمليات العسكرية التركية، ومنها قصف منتجع برخ في قضاء زاخو في محافظة دهوك في كردستان العراق عام 2022 والذي خلّف سقوط 32 شخصاً ما بين قتيل وجريح، وقد حمّلت بغداد وقتها أنقرة مسؤولية ما حدث، لكن تركيا نفت وقوفها وراء الهجوم.
وستكون المنطقة العازلة على الحدود التركية - العراقية بعمق 30 كلم على طاولة البحث.
ورداً على سؤال عن إمكان التعاون مع تركيا في ما يتعلق بملاحقة مقاتلي "العمال الكردستاني"، استبعد وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي، في لقاء متلفز في آذار (مارس) القيام بعمليات مشتركة. لكنه أكد أن الجانبين يعملان على إنشاء "مركز تنسيق استخباري مشترك".
وتمتلك تركيا قواعد عسكرية في شمال العراق، من دون مسوغ قانوني تستخدمها في إطلاق عملياتها العسكرية ضد "العمال" داخل الأراضي العراقية. وتزعم تركيا أن لها الحق في إنشاء تلك القواعد، وفقاً لاتفاقية أمنية بين البلدين وقعت عام 1984.
وردّ وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين على تلك المزاعم بأن ثمة "محضراً رسمياً موقعاً من وزير الخارجية العراقي آنذاك طارق عزيز مع نظيره التركي عام 1984 يتعلق بالسماح للقوات التركية بدخول الأراضي العراقية ولمدة عام واحد فقط، بمسافة لا تتجاوز 5 كيلومترات".
مشروع طريق التنمية
وبرعاية السوداني وإردوغان، تم في بغداد توقيع مذكرة تفاهم رباعية بين العراق وتركيا وقطر والإمارات، تهدف إلى التعاون المشترك بشأن "مشروع طريق التنمية".
ووقع المذكرة في القصر الحكومي في بغداد عن الجانب العراقي وزير النقل رزاق محيبس، وعن الجانب التركي وزير النقل والبنية التحتية عبد القادر أورال أوغلو، ومن قطر وزير المواصلات جاسم بن سيف السليطي، ومن الإمارات وزير الطاقة والبنية التحتية سهيل محمد المزروعي.
ومشروع "طريق التنمية" عبارة عن مسارين بري وسككي بطول 1200 كيلومتر حتى نقطة فيشخابور داخل العراق، ومنها إلى الموانئ التركية، ويهدف إلى نقل البضائع بين أوروبا ودول الخليج.
وقال السوداني الذي رعى مع الرئيس التركي توقيع مذكرة التفاهم الرباعية: إن "طريق التنمية سينقل المنطقة اقتصادياً".
وأضاف أنه "ليس لاختصار المسافات فقط، بل سيتحول إلى جسر رابط بين شعوب المنطقة وثقافاتها، وسيدعم الأمن والاستقرار في المنطقة".
ويقول مدير الإعلام والاتصال الحكومي في وزارة النقل ميثم الصافي لـ"النهار العربي"، إن الحكومة العراقية تسعى من خلال طريق التنمية إلى تحقيق تكامل اقتصادي إقليمي، وإيجاد اقتصاد مستدام لدول المنطقة، من خلال تسهيل حركة التنقل والتجارة، عبر الطريق الذي سيكون الأسرع والأقل تكلفة.
ويضيف الصافي أن التكلفة التخمينية لمشروع طريق التنمية تقدر بنحو 17 مليار دولار، مبيناً أنه سيُنجز على 3 مراحل، تنتهي الأولى عام 2028 والثانية في 2033 والثالثة في 2050.
ويشرح الصافي أنه على جانبي الطريق سيتم إنشاء العديد المدن الصناعية والزراعية وساحات التبادل التجاري، وبالتالي فإن تلك المشاريع ستوفر ملايين فرص العمل بعد إكماله وإنجازه.
وقال وزير المواصلات والبنى التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو، إنه "عند اكتمال مشروع طريق التنمية، فإن عملية شحن البضائع ستنخفض إلى 25 يوماً"، مبيناً أن "حركة السفن التي تمر عبر قناة السويس تستغرق 35 يوماً، وأكثر من 45 يوماً عبر رأس الرجاء الصالح، أما عند اكتمال طريق التنمية فإن الوقت سينخفض إلى 25 يوماً".
وأضاف الوزير التركي أن "المرحلة الأولى من المشروع سيتم تشغيلها العام المقبل"، مشيراً إلى التخطيط لبناء 1200 كيلومتر من السكك الحديدية والطرق السريعة ونقل الطاقة وخط للاتصالات ضمن نطاق المشروع.