مع استعصاء انتخاب رئيس جديد للبرلمان العراقي ومباشرة الإجراءات البرلمانية لتحويل عيد الغدير إلى عطلة رسمية على مستوى البلاد، ارتفعت مجدداً أصوات في المحافظات ذات الغالبية السنية للمطالبة بإنشاء "إقليم سُنّي"، شبيه بإقليم كردستان، لحفظ خصوصية المكون السنّي العراقي، بحسب رأي المطالبين.
هذه المطالبات يقودها عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ناشطون مدنيون وقادة رأي ضمن التشكيلات السياسية السُنّية الأساسية في البلاد، لأن القادة السياسيين لا يستطيعون طرح الموضوع مباشرة وعلناً، خشية التبعات السياسية وحتى الأمنية التي يمكن أن تطالهم جراء ذلك. فالأجهزة الدعائية والقضائية والسياسية المرتبطة بالأحزاب المركزية الشيعية والفصائل المسلحة التابعة لها، عادة ما تنعت أصحاب تلك الدعوات بالعمالة للخارج والاستجابة لأجندات معادية للعراق بغية تفكيكه وتقسيمه طائفياً. لكن رغم ذلك فإن فيضاً متنامياً من الكتابات والمقاطع المصورة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي صار يعبّر عن ذلك، بالإضافة إلى نداءات واضحة من الناشطين والسياسيين المقيمين في إقليم كردستان وخارج العراق.
وتوسعت هذه المطالبات عقب إقالة البرلمان العراقي زعيم حزب "تقدم" محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان أواخر العام الماضي، وهو زعيم أكبر حزب وكتلة برلمانية سُنّية في البلاد، فيما أعاقت الكتل البرلمانية الشيعية انتخاب رئيس جديد للبرلمان منذ ذلك الوقت، وإبقاء المنصب السُنّي الأول في البلاد شاغراً، مع إمعان في زيادة التناقضات والخلافات بين القوى السُنّية الرئيسية في البلاد، وصل إلى حد استخدام المحكمة الاتحادية مجدداً لمنع المرشح التوافقي الشيخ شعلان الكريّم من الوصول إلى المنصب.
وأفادت معلومات متطابقة تسربت عقب إقالة الحلبوسي، بأن هذا الأخير اجتمع مع عدد من القادة والزعماء المحليين في محافظة الأنبار، منهم الزعيم العشائري علي حاتم السلمان ونجل القائد السابق لتنظيم "الصحوات" في العراق أحمد أبو ريشة، ناقشوا خلاله إحياء مشروع تشكيل إقليم سُني في البلاد، عبر الطرق القانونية الدستورية، وإن بتسمية غير مباشرة وعلنية لذلك، تكون محافظة الأنبار الغربية، أكبر محافظات العراق، مركزاً له، ومن ثم يتوسع مستقبلاً ليشمل محافظات مثل الموصل وصلاح الدين وديالى، ذات الغالبية السُنية.
ورغم نفي القيادات السياسية والأهلية الدخول في تلك النوعية من النقاش أثناء اجتماعهم الذي قالوا إنه حدث مصادفة، إلا أن التحركات المضادة لهم من القوى المقربة من التيارات المركزية الحاكمة في البلاد، في المنطقة نفسها، بالإضافة لأطروحات شخصيات ثقافية ومدنية مقربة منهم، أشارت إلى وجود ذلك الجو من النقاشات غالباً.
التوجهات نحو المطالبة بتشكيل إقليم سُنّي ارتفعت مع مطالبة زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر بتحويل مناسبة عيد الغدير (الشيعي) إلى عطلة رسمية في البلاد، والاستجابة السريعة لطلبه من قِبل كتلة برلمانية شيعية ضمن البرلمان، إذ إن لعديد من الشخصيات والقوى السياسية السُنّية رأت في الأمر خطوة أخرى لـ"تشييع" مؤسسات الدولة العراقية وكيانها.
وقال "الحزب الإسلامي العراقي"، في بيان صحافي، إن "مقترح اعتماد عيد الغدير عطلة رسمية لا يتوافق مع احتياجات العراق اليوم... لهذه المناسبة خصوصية لدى مكوّن دون آخر، لكنها ستعيد إنتاج دوامة الفعل ورد الفعل بما لا يخدم المصلحة الوطنية العليا". أما حزب "متحدون" بزعامة رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي فقال في بيان رسمي: "في هذه المرحلة المفصلية التي يعيشها العراقيون، من الأجدر البحث عن نقاط اتفاق جديدة بعيداً عن السرديات الطائفية... إن عيد الغدير أو عيد الولاية بحسب السردية التي يعتنقها الفقه الشيعي يكفّر من لا يعتقد ذلك".
تناقضات النخبة
الباحثة في الشؤون السياسية نورهان القلمجي شرحت في حديث إلى "النهار العربي" ما أسمته التناقض الداخلي للنخبة السياسية السُنّية في العراق، وتأثير ذلك على صوغ مشروع سياسي استراتيجي خاص بالمكون ضمن الكل العراقي، وقالت: "على العكس من النُّخب والقوى السياسية الكردية والشيعية الواضحة في تعبيراتها الطائفية، فإن النُخب والقوى السُنّية شديدة التقية والحذر في إعلان نياتها وتوجهاتها الحقيقية. لم يأتِ ذلك من خشيتها من إمكان الصدام مع القوى الشيعية النظيرة فحسب، بل لطبيعتها القومية التقليدية وامتثالها لمعتقد يظن أنها الحمال الوحيد للوطنية العراقية الحامية للكل الوطني، رغم تأكدها الضمني من عدم جدارة هذا المعتقد، راهناً على الأقل، وطبيعته الاستحواذية/البعثية خلال مراحل سابقة. لأجل ذلك، تراها تنكر كل ما يتعلق بذلك علناً، رغم المناقشات الضمنية التي تخوضها في ما بينها بذلك الشأن، وتأكدها من عدم وجود أي حلول أو إمكان لحلحلة الأوضاع والصراعات الداخلية العراقية إلا بمزيد من اللامركزية السياسية والاقتصادية والإدارية، خصوصاً أن ذلك أصبح مطلباً جماهيراً ملحاً بعد انتهاء الحرب ضد تنظيم "داعش"، وانتشار فصائل الحشد الشعبي في الكثير من المناطق السُنية".
وبحسب المادتين 116 و120 من الدستور العراقي، فإن أي محافظة أو محافظات عدة عراقية تستطيع أن تتحول إلى إقليم فدرالي، أسوة بإقليم كردستان، شرط موافقة ثلثي أعضاء مجلس المحافظة على ذلك، وتنظيم استفتاء داخل المحافظة أو محافظات عدة راغبة في ذلك، ما يعني أن خلق إقليم في المناطق السُنية لا يعاني عوائق قانونية، بل سياسية وأمنية.