بغداد - باسل سواري
لا يوثّق تاريخ العلاقات العراقية - السعودية حالات كثيرة لنشاط دبلوماسي بين بعثات البلدين، فالعلاقة كانت تدار غالباً من الأعلى، بين الملوك والرؤساء، ومؤخراً مع زعماء القوى السياسية الكبيرة، وبقيت السفارات طيلة عقود خاملة نسبياً، لكن السفير السعودي في بغداد عبد العزيز الشمري بات يتقدم بشكل ملحوظ نحو تغيير هذا الحال، بخاصة بعد جولته الأخيرة التي وُصفت بالجريئة على مدينتي كربلاء والنجف، حيث مركز الثقل الشيعي في العراق والعالم.
وتولى الشمري منصبه قبل نحو 8 سنوات، خلفاً لثامر السبهان الذي اتسمت مرحلته بتوتر كبير لم يكن وحده مسؤولاً عنه، بل كذلك الجماعات الموالية لإيران التي حاولت إجهاض مهمته، ليصل الشمري بعد ذلك إلى السفارة أواخر العام 2016 ويبدأ عهداً طويلاً من الهدوء، استهلّه بصورة شهيرة وجريئة أيضاً عام 2018، حين تجول في أحد "مولات" بغداد، ممسكاً بيد وزير الداخلية آنذاك قاسم الأعرجي، الذي يوصف بأنه من "المعتدلين" في منظمة بدر برئاسة هادي العامري.
وعلاوةً على خبرته الدبلوماسية والعسكرية، ينتمي السفير إلى قبيلة شمّر، التي تسكن قوساً يمتد من حدود السعودية أقصى جنوب العراق حتى آخر نقطة شمالاً في مدينة ربيعة، ولذا فهو ليس في بيئة غريبة، وبإمكانه التواصل جيداً مع مختلف شرائح العراقيين إذا ما اتخذ القرار وأتيحت الفرصة.
وبقيت نشاطات الشمري طيلة فترته مقتصرة على بعض اللقاءات البروتوكولية، وقد امتنع تقريباً عن الظهور الإعلامي إلا ما ندر، ولم يرد اسمه في سياق التدخلات السياسية بتشكيل الحكومات مثلاً كما يتكرر ذكر أدوار أقرانه من الولايات المتحدة وإيران وحتى تركيا، وكان مفاجئاً ظهور السفير قبل أيام مجالساً كبار زعماء الحوزة الشيعية في النجف، المرجعين آية الله الشيخ بشير النجفي، وآية الله الشيخ اسحاق الفياض.
وذهبت بعض التفسيرات إلى أن تحرك السفير نحو حوزة النجف، ربما يستهدف الوصول إلى تطمينات من كبار العلماء، تضمن عدم قيام بعثة الحجاج العراقيين بأي تصرفات تعكر سير موسم الحج الحالي، خاصة بعد التصريحات الملتبسة التي أطلقها مقتدى الصدر عن "دخول بيت الله من باب علي"، وصار معروفاً أن الصدر دخل في هذه الأيام مرحلة "لفت انتباه وشد عصب" طائفي، بعدما جرى تجاهل قراره بالاعتزال السياسي، ومضى ملف تشكيل الحكومة العراقية وهي تكاد تكمل عامين بلا مشاكل كبيرة تذكر، غير أن الاستقبال الذي حظي به السفير من العشائر (الشيعية) في النجف كان استثنائياً وعابراً للتفسيرات البسيطة، فقد أقيم له حفل ضخم ضم كبار وجهاء العشائر ولم يحظ به سفير سعودي من قبل.
السفير السعودي داخل مرقد الإمام الحسين في كربلاء
وكان بإمكان السفير الاكتفاء بزيارة المحافظتين ولقاء المسؤولين المحليين، لكنه أصرّ على دخول المراقد الدينية المقدسة لدى الشيعة، وعبّر عن انبهاره متجاوزاً كل الحساسيات العقائدية، وهو بذلك يعكس بشكل دقيق توجه حكومة بلاده التي قررت قبل نحو عقد الانفتاح على المكونات ومغادرة العقد القديمة، وتشجيع التوجهات الوطنية العابرة للطوائف، والتصالح مع التنوّع في المنطقة.
مع هذا، يعتقد طيف واسع من القوى الموالية لطهران، أن السعودية المعتدلة أخطر بكثير على النفوذ الإيراني من السعودية المتطرفة، وأن أي علاقة بين السعودية والشيعة يجب أن تمر عبر إيران وحدها، وقد قوبلت جميع تحركات الرياض تقريباً بحملات من التشكيك ونظريات المؤامرة والتهديد، لاسيما إعلان الرياض عام 2020 رغبتها باستصلاح الصحراء العراقية وزراعتها وتربية المواشي، وهو ما اعتبره ائتلاف نوري المالكي وجماعة "عصائب أهل الحق" وغيرهما "محاولة استعمارية على صلة بإسرائيل"، لتقرر السعودية بعد ذلك سحب عرضها.
أما التحركات الأخيرة للسفير، فقد كانت أيضاً محط استياء الفصائل، لاسيما فصيل "كتائب حزب الله" الذي أصدر بياناً قال فيه "إن نشاطات سفراء الدول المعادية للعراق في المحافظات يجب أن تكون محط مراقبة وحذر، لكونها حركات مريبة"، لكن ما تقوله "الكتائب" لا يعبّر عن رأي فصائل أخرى تشارك وتستثمر في حكومة محمد شياع السوداني، وترغب بإعادة تطبيع أوضاعها مع الداخل والمحيط مثل "عصائب أهل الحق"، ولذا يعتقد كثيرون أن هذا التلويح من "الكتائب" يتعلق أكثر بشعور هذا الفصيل وقوى أخرى بالتهميش والإبعاد عن عوائد الانفتاح والاتفاقات السياسية والاقتصادية التي تبرمها الفصائل المساندة للحكومة.
وبينما تتباهى السياسة الإيرانية دائماً بـ"النفس الطويل"، فإن "النفس السعودي" في العراق لا يبدو قصيراً، لأن السفير الشمري عاد ليكرر خلال زيارته الأخيرة إلى النجف سعي بلاده مرة أخرى إلى فتح آفاق استثمارية مع العراق من جديد، رغم الحملة الجماعية من حلفاء إيران قبل 4 سنوات.