قبل عشرة أعوام، شكّلت الموصل عاصمة "الخلافة" التي أعلنها تنظيم "داعش" بعد اجتياحه مناطق واسعة في سوريا والعراق نشر فيها القتل والدمار. اليوم، لا زال سكان المدينة يكافحون للتعافي وبناء مستقبل أفضل.
بين هؤلاء طالب جامعي قطع الجهاديون يده أصبح اليوم ناشطًا حقوقيًا، وصاحب محل موسيقى تمكّن من إنقاذ أرشيف عمره 50 عامًا، وقاض حاكم جهاديين سابقين بعد أن أعدم التنظيم المتطرف شقيقه.
في العاشر من حزيران (يونيو) 2014، سيطر التنظيم على الموصل في محافظة نينوى في شمال العراق. وأعلن منها بعد 19 يومًا "الخلافة الإسلامية".
وأطلّ الزعيم الأسبق للتنظيم أبو بكر البغدادي علنًا للمرّة الأولى من جامع النوري الكبير في الموصل، مقدّما نفسه على أنه "أمير المؤمنين"، في لحظة لا تزال محفورة في ذاكرة كثيرين.
خلال سنوات بثّوا فيها الرعب، حوّل الجهاديون حياة الناس إلى جحيم، فنفّذوا إعدامات بقطع الرأس وفرضوا عقوبات بقطع أصابع المدخنين أو أيدي السارقين وجعلوا من نساء "سبايا" ودمّروا كنائس وجوامع ومتاحف وأحرقوا الكتب والمخطوطات.
بعد معارك عنيفة، استعاد الجيش العراقي، بدعم من تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة، الموصل في العام 2017، معلنا هزيمة التنظيم في العراق.
الطالب
في أحد أيام أيار (مايو) 2015، تجمّع عشرات الأشخاص في حي الكرامة في شرق الموصل، وعيونهم مسمّرة على آزاد حسن وشقيقه ورجلين آخرين.
نظر حسن إلى الناس من حوله، وفق ما يروي، بهلع، بينما دقّات قلبه تقرع بقوة.
ويقول لوكالة "فرانس برس": "كأنما كانوا مستأنسين بالمشهد، كأنها مبارة كرة قدم بين ريال مدريد وبرشلونة".
لكن الحقيقة كانت مختلفة تماما، ومأسوية.
ويتابع حسن (29 عامًا) "قطعوا أيدينا"، موضحا أن عقابه جاء نتيجة خلاف مع صاحب فرن كان ينتمي إلى التنظيم.
لم تتوقف معاناة العائلة هنا، إذ إن التنظيم اعتقل أحد أشقاء حسن وثلاثة من أقاربه، ولا يزال هؤلاء مفقودين حتى الآن، بحسب قوله.
ويضيف طالب الماجستير باللغة العربية في جامعة الحمدانية "أرادوا كسري، لكنهم خسئوا وخابوا".
ويتابع الأب لطفل يبلغ سبعة أعوام "أرتاد اليوم الجامعة وأمارس كرة القدم وأقود سيارة إلى حدّ كبير"، معتبرًا أن سلاحَي محاربة التطرف الإسلامي هما "العلم والمعرفة".
ورغم أنه لا يزال يشعر "بأثر الجرح"، يقول حسن الذي بات اليوم ناشطًا في مجال الدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة والمفقودين، "هناك إرادة لمكافحة هذه الأشياء السلبية الموجودة بداخلي".
صاحب محل الموسيقى
في شارع الدوّاسة التجاري، يروي صاحب متجر "تسجيلات الربيع" للأسطوانات الموسيقية عمار طه خضر (50 عامًا) كيف أنقذ أرشيفه الموسيقي، من أسطوانات وأشرطة مسجّلة وأجهزة يعود عمرها إلى الثلاثينات والأربعينات، من أيدي الجهاديين فور دخولهم المدينة.
فبعد إخراجها من المتجر إلى المنزل، اتفق مع سائق شاحنة مواد غذائية لنقل الأرشيف إلى بغداد.
ويقول "خبّأنا الصناديق خلف المواد الغذائية"، مضيفًا أنه لم يشعر بالارتياح إلّا حين "تمكّن من إبعاد الأرشيف عن الخطر".
زار الجهاديون متجر خضر مرة واحدة فقط، وكان قد حوّله إلى محل لبيع الألبسة المستعملة "للتمويه"، وفق قوله.
ظنّ خضر أن "المسألة لن تطول سوى شهرين او ثلاثة"، فقرّر البقاء مع والديه في المدينة. لكن هزيمة الجهاديين لم تأت سوى بعد ثلاث سنوات.
سارع خضر بعدها لترميم متجره الذي أسّسته العائلة في العام 1968، معيدًا إليه هويته الأساسية.
ويقول "أعتبر هذا المحل صيدلية نعطي فيها لكلّ زائر علاجا".
ويجد زبائن المتجر اليوم أشرطة تسجيل أقدمها يعود للعام 1917، ليس فقط لفنانين عراقيين وعرب إنما كذلك لموسيقيين عالميين مثل باخ وبيتهوفن.
وتزيّن الجدران صور مطربين وملحنين مشهورين عراقيين وعرب من أم كلثوم إلى عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب.
ويتابع "عانت المدينة" كثيرًا، لكنها "ستزهو بأبنائها وهي معروفة بعمقها التاريخي، مدينة المؤرخين والمثقفين والعلماء".
القاضي
غادر القاضي أحمد الحريثي (60 عامًا) مدينته الموصل قبل يومين من دخول تنظيم الدولة الإسلامية، وانتقل إلى العاصمة بغداد.
لكن ما هي سوى فترة قصيرة حتى اعتقل الجهاديون والده وشقيقيه، ثم ما لبثوا أن أعدموا الأصغر سنا في "ساحة عامّة بالسيف" حين كان يبلغ 17 عاما فقط.
ويقول القاضي لوكالة "فرانس برس" في مكتبه في الموصل "بثّوا صوراً له على مواقعهم. كان يفتخرون بمثل هذه الأعمال".
بعد هزيمة التنظيم، حاكم الحريثي "المئات من الإرهابيين".
في العام 2019، أصدر حكما بالإعدام بحق 11 فرنسيا "تمّ ترحيلهم من سوريا إلى العراق (...) بعدما اعترفت غالبيتهم بانتمائهم إلى تنظيم داعش الإرهابي وبقيامهم بأعمال إرهابية"، على حدّ قوله.
ويضيف "الأدلة كانت كافية ومباشرة وواضحة". وقد وجّهت إليهم اتهامات بتنفيذ هجمات في البلدين والتخطيط لهجمات أخرى في باريس وبروكسل، وما زالوا مسجونين في العراق.
وأصدرت المحاكم العراقية مئات أحكام السجن بالمؤبد والإعدام في السنوات الأخيرة بحقّ أشخاص أدينوا بـ"الإرهاب" في محاكمات اعتبرت منظمات حقوقية أنها حصلت على عجل.
ويتابع الحريثي "لم أشعر أنني تأثرت سلباً تجاه المتهمين"، مضيفًا "كنت أتعامل مع الموضوع بحيادية كبيرة".
عاد الحريثي إلى الموصل في 2020، وبات نائبا لرئيس محكمة استئناف نينوى. ويقول "كان الوضع مأساويًا (...) لم أعرفها وكأنني أدخل إليها لأوّل مرة".