ليست الميليشيات صناعة عربية، ولا هي حكر على الشرق الأوسط. عرفت دول كثيرة الميليشيات في دساتيرها. لكن ما يميز ميليشيات المنطقة هو تعايشها مع الدول ونموها على حسابها.
على امتداد المعمورة، ثمة جماعات تتمرد على الحكومات المركزية، وتقاسمها مقدراتها بالقوة، الا أنه لم يحصل أن كانت هذه الجماعات نفسها تسيطر على حصة وازنة في البرلمانات وتخترق الأجهزة العسكرية والأمنية والمؤسسات المالية.
بات أكثر من ربع سكان العالم العربي البالغ عددهم أكثر من 400 مليون يعيشون في دول ضعيفة، وعاجزة عن السيطرة على الجماعات المسلحة. فبعدما لجأت دول كالعراق وسوريا وليبيا واليمن والتي تملك جيوشاً ضعيفة بمستويات متفاوتة، إلى تحالفات مع الميليشيات المسلحة لضمان أمنها، خرجت هذه المجموعات من سيطرتها وبات صعباً عليها إعادتها الى النظام. وفي لبنان، تطور "حزب الله" الذي أسسه الحرس الثوري الإيراني عام 1982 إلى أقوى فصيل مسلح في المنطقة، وبات يمسك بقرار الحرب والسلم في البلد.
غالباً ما كان للقوة المتضخمة لهذه الميليشيات تأثير على الانسجام الداخلي، وصولاً الى حروب أهلية وخصوصاً في مجتمعات طائفية. ومنذ هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، جرّت هذه الجماعات المسلحة أربع دول عربية إلى معركة متصاعدة مع إسرائيل، حيث تنشط كوكلاء لإيران، في حين تنشط ميليشيات الشمال السوري في المقلب الآخر ولبعضها علاقات وثيقة بتركيا. ووقت تنذر هذه جماعات إيران بتحويل حرب غزة الى حرب إقليمية مدمرة، تلقي "النهار" الضوء في ملف تحت عنوان: "الميليشيات آفة العالم العربي" على أبرز هذه الميليشيات ودورها في إضعاف الدول الوطنية، من دون إغفال الجماعات المسلحة في ليبيا والسودان حيث تحتدم الصراعات الأهلية.
تكشف خريطة انتشار الميليشيات الإيرانية في سوريا عن حقيقة الأهداف الاستراتيجية التي تسعى طهران إلى تحقيقها، وتتمثل في البحث عن خواصر رخوة من أجل توسيع نفوذها، من جهة، ومقارعة القوى الإقليمية والدولية من جهة أخرى، الأمر الذي يمنح الأراضي الإيرانية نوعاً من الحصانة ضد أي هجوم أو اعتداء لأن خصومها سيظلون مشغولين بمواجهة أذرعها الممتدة في الدول التي تمتلك نفوذاً فيها. كما أن ذلك يمنحها أدوات للضغط للحصول على مكاسب في بعض الملفات، أو لتقليل رد فعل خصومها ضد نفوذها المتنامي، بسبب قدرتها على توجيه ضربات مقنَّعة بواجهات مسلحة محلية.
ولم تطرأ منذ سنوات أيّ تغيرات كبيرة في خريطة الفصائل المسلحة التي تنتشر في مناطق الشمال السوري التي تحتلها القوات التركية، ربطاً بحالة الستاتيكو العسكرية التي سادت في هذه المناطق منذ توقيع اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا في عام 2020.
غير أن غياب المعارك الكبيرة بين هذه الفصائل من جهة، والقوات الحكومية السورية من جهة ثانية، شكّل فرصة لأنقرة من أجل إعادة رسم أدوار هذه الفصائل، وإعطائها بعداً دولياً باستخدامها في بعض الجبهات المشتعلة، سواء في ليبيا أو أذربيجان، وليس انتهاءً بالنيجر.
في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق في عام 2010، برزت تنظيمات شيعية مسلحة على الساحة العراقية، صارت تفرض سطوتها على الحياة السياسية بدعم من الخارج، في ظل الوضع الأمني الهش. وأنعش احتلال تنظيم "داعش" بعض مناطق شمال العراق وغربه حظوظ تلك الفصائل التي تحولت إلى دويلات صغيرة تملك السلاح والمال والبشر، ولها ارتباطات وعلاقات خارجية ونشاطات تجارية.
وطبقاً لمصادر مطلعة، يزيد عدد الميليشيات في العراق على 73 فصيلاً مسلحاً، تعمل أغلبيتها تحت أجنحة سياسية بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ تنتشر في مقرات رسمية وغير رسمية، وأخرى سرّية، تتركّز في محافظات بغداد وبابل وديالى وصلاح الدين والانبار ونينوى. كذلك، هناك مقرّات مختلفة لعدد من تلك الفصائل في ضواحي محافظة كربلاء.
أما الميليشيات الحوثية منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء والدولة اليمنية، فنوعت مصادر إيراداتها، بينما كانت قبل سيطرتها على صنعاء تعتمد على مصادر مشبوهة مثل تجارة السلاح والممنوعات وتهريب البشر وغسيل الأموال.
وتحقق الميليشيات الحوثية مصادر دخل تفوق ثلاثة مليارات دولار في السنة، فهي شبه دولة داخل دولة، تمول حروبها من هذه الإيرادات ولا تقوم بالتزاماتها تجاه المواطنين.
"حزب الله" أقوى جماعات إيران المسلّحة
ومن الملعب السياسي وصولاً إلى الميدان العسكري، يتصدّر "حزب الله" المشهدية اللبنانية، ويبرز لاعباً أساسياً في الإقليم انطلاقاً من موقعه على الخارطة الإيرانية التوسّعية، بعدما بات ورقة طهران الأقوى، والأكثر قدرة على إحداث الفوارق، من اليمن مروراً بالعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان وغزّة، حتى توسّع دوره ليشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا ودولاً أوروبية.
شهد "حزب الله" تطوراً كبيراً منذ نشأته. فبعدما كان حركةً مقاومة لإسرائيل في الجنوب اللبناني، بات اليوم لاعباً إقليمياً بفضل مراكمة الخبرات السياسية والعسكرية، لاسيما أنه يعيش حالة حرب مستمرّة، من الجنوب اللبناني، إلى سوريا التي اقتحمها حفاظاً على النفوذ الإيراني فيها، واليمن حيث شارك في الحرب إلى جانب الحوثيين للضغط على السعودية.
ميليشيات الغرب اللّيبي المتفّلتة عصيّة على الحلّ
في خضم حراك شباط (فبراير) 2011، وتحوله إلى تمرد مسلح، لم تتخيل غالبية الليبيين أن السلاح الذي رُفع في وجه الزعيم معمر القذافي وقواته سيرتد مع مرور الأيام على المدنيين، لكن مع مضي السنوات عاشت ليبيا خلالها فترات عصيبة ترسخ اعتقاد بأن السلاح هو كلمة السر في ظل غياب أي جهد حقيقي، طيلة أكثر من عقد، لجمعه وإنهاء حالة الفوضى.
فبحيازة السلاح تستطيع السيطرة على رقعة من الأرض، وإذا كثفت من تكنيزه ورفع مستواه التدميري يمكنك توسيع أرضك وطرد خصومك ولو كانوا على سدة الحكم، ومن ثم تمتلك السلطة على تلك المساحة وتجبي من ورائها المال. وبالسلاح والمال يُتاح لك توسيع سلطاتك ونفوذك عند دوائر صنع القرار السياسي والمالي. إذاً هي دائرة لا تنتهي تختلط فيها ثلاثية: السلاح والسلطة والمال، والتي ستظل ليبيا، أكبر خزان نفطي في أفريقيا، ترزح تحت ظلالها لأجل غير مسمى بعدما تخلصت من القذافي ودكتاتورية زمنه.
الميليشيات في السودان: تاريخٌ دموي
لا تفارق الميليشيات المسلحة تاريخ السودان منذ ما قبل الاستقلال وحتى اليوم، سواء في لحظات ضعف السلطة أو قوتها. فمسألة حمل السلاح وتشكيل المجموعات المقاتلة مستمرة بأوجه عرقية أو قبلية أو دينية، مع مفارقة أن البندقية التي يقاتل صاحبها إلى جانب الحكومة تنقلب ضدّها في فترات لاحقة، لتغدو الحصيلة عدداً غير محدد من الفصائل، بعضها أشبه بجسم بلا رأس، وسط غياب القيادة الفعلية والانشقاقات التي تكاد تلازم أغلبيتها.
حرب عصابات وفكرة التسليح
كانت جبهة جنوب السودان أولى المواجهات التي وجدت السلطة نفسها فيها أمام مجموعات مسلحة تقاتل بمبدأ حرب العصابات دفاعاً عن مطالبها برفع التهميش. وهي الأزمة التي تبلورت لاحقاً لتكون العنوان العريض لحركات التمرّد تحت شعار "المركز والهامش".