خرق خطير تمكّنت مصارف عراقية من إحداثه للالتفاف على نظام العقوبات الأميركي الذي تمنع بموجبه وزارة الخزانة الأميركية تمويل إيران والجماعات المرتطبة بها. ووفق معلومات نقلتها صحيفة "وول ستريت جورنال"، فإن هذا الخرق أدّى إلى تحويل مبالغ قُدّرت بمئات ملايين الدولارات إلى الحرس الثوري الإيراني وجماعاته في المنطقة، بينها "حزب الله" و"حماس".
تقنياً، تمثل هذا الخرق في تحويل مصارف عراقية أموالاً الى شركات وهمية تابعة للحرس الثوري والجماعات الإيرانية، بحسب معلومات الصحيفة الأميركية. وهذا الالتفاف أسلوب قديم تعتمده إيران وجماعاتها، يقوم على تأسيس شركات وجمعيات وهمية تحت أهداف منوّعة، منها ما هو تجاري أو بيئي وغيرهما، لكن مردود هذه المؤسسات يعود لتمويل الأنشطة السياسية والعسكرية.
ولمواجهة هذا الالتفاف على العقوبات، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات لمنع المصارف العراقية المشتبه بها من استخدام نظام البنك المركزي العراقي لتحويل الأموال، بحسب وكيل الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية براين نيلسون. وقال: "كان مهماً بالنسبة إلى الخزانة الأميركية ضمان عدم تحويل تلك الأموال لدعم النظام الإيراني".
ماذا يقول القانون عن خرق نظام العقوبات؟
بناء عليه، ثمّة سؤال يُطرح عن كيفية تعامل الولايات المتحدة مع الخروق بشكل عام، وما إذا كانت تكتفي بإجراءات تمنع المصارف من تحويل المزيد من الأموال إلى جهات محظورة، أم ستلجأ إلى فرض عقوبات على هذه المصارف ومنعها من التعامل مع مصارف أخرى، فماذا يقول القانون؟
العقوبات الأميركية هي ذات طابع عقابي وإجراءات استباقية حمائية، وفق المحامي الدكتور بول مرقص، وهو رئيس مؤسسة "JUSTICIA" الحقوقية والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ، "وبالتالي فإن وزارة الخزانة الأميركية تفرض عقوبات على المصارف التي تخرق القوانين الأميركية في تعاملاتها بالدولار ولا تحذّرها فحسب".
لكن بحسب مرقص، "يُمكن للمصارف تفادي هذه العقوبات إذا بادرت وسارعت إلى زيادة الإجراءات والتدابير والسياسات الاحترازية عبر رفع مستوى الدفاعات والإنذارات الداخلية، وأعلمت بذلك السلطات الأميركية الرقابية في وزارة الخزانة"، وفق حديثه إلى "النهار العربي".
وإذ يؤكّد مرقص أن تحويل الأموال يستوجب تقصي المصرف العلاقة التي تربط الآمر بالتحويل (Sender) والمستفيد من التحويل (Receiver) والمبرر وراء التحويل وتوثيق ذلك، يُشير إلى أن "من المحتمل أن المصرف الذي يخرق العقوبات لم يتقصَ العلاقة بين المرسل والمستفيد ومبرّرات التحويل"، أو أنّه تقصّى المعلومات لكنه مشارك في عملية غسيل الأموال.
غطاء سياسي من أحزاب موالية لإيران في العراق
هذا الخرق المصرفي يتم تحت غطاء سياسي انطلاقاً من واقع العراق، إذ تُسيطر الأحزاب المقرّبة من إيران، والمنضوية في سياق الإطار التنسيقي، على المشهدين السياسي والأمني، وتعمل بما يخدم سياستها في الداخل وسياسات إيران في الخارج. وقد تمكّنت هذه الأحزاب، من خلال نفوذها، من الالتفاف على قانون العقوبات الأميركي وتحويل الأموال للحرس الثوري وجماعاته المسلّحة.
يشرح أستاذ السياسات العامة إحسان الشمّري الدور الذي تؤديه الأحزاب المقرّبة من إيران في التفاف مصارف عراقية على قوانين العقوبات الأميركية، ويُشير إلى خطوات تم اتخاذها سهّلت الخرق، "منها طلب الحكومة من الولايات المتحدة السماح بمزيد من التعاملات التجارية الرسمية مع الخارج، بالإضافة إلى ضغط حلفاء إيران على الحكومة لاستصدار إجازات تأسيس مصارف من دون التدقيق بأدائها ومصادر تمويلها".
وفي حديث الى "النهار العربي"، يكشف الشمّري عن دعم تقدّمه الأحزاب الموالية لإيران في العراق لهذه المصارف "من خلال توفير الحماية السياسية والأمنية لها وضغوط تمارسها على الحكومة والمصرف المركزي لعدم مساءلة هذه المصارف"، ويُذكّر في هذا السياق بالتضييق الذي قامت به هذه الأحزاب على المحافظ السابق للمصرف المركزي علي العلّاق لمنعه من متابعة ملفات هذه المصارف.
كان العراق خارج نظام "سويفت" العالمي الذي تتم عبره مراسلات المصارف بين الدول لتحويل الأموال، وقد استفادت بعض المصارف من هذه الثغرة لتمويل الجماعات الإيرانية، بحسب تقرير "وول ستريت جورنال". وفي هذا السياق، يقول الشمّري إن "واشنطن طلبت الامتثال لنظام "سويفت" منذ عام 2018، لكن الحكومات العراقية رفضت ذلك بضغط من الأحزاب المتحالفة مع إيران حتى عام 2023"، لتستمر بعض المصارف بغسل الأموال وتحويلها إلى جماعات إيران.
في هذا السياق، ثمّة سؤال يفرض نفسه: هل ستتوقف المصارف العراقية المقرّبة من إيران وأحزابها عن الالتفاف على قوانين العقوبات الأميركية وبالتالي عدم تحويل الأموال إلى الجماعات الإيرانية؟ برأي الشمّري، "الحكومة غير قادرة على منع هذا الواقع"، والجماعات الإيرانية "بارعة في الالتفاف على العقوبات بأساليب عديدة، منها تأسيس مصارف جديدة أو إنشاء مكاتب صيرفة أو حتى تحويل الأموال براً وجواً، وبالتالي الالتفاف على العقوبات مستمر ولن يتوقف".
في المحصّلة، فإن الولايات المتحدة اكتشفت خرقاً جديداً تقوم به إيران وجماعاتها للالتفاف على قوانين العقوبات، لكن هذا الخرق المُكتشف يُشير إلى أنّه قد تكون ثمّة خروق أخرى غير مكتشفة بعد، خصوصاً أن إيران الخاضعة للعقوبات منذ عقود باتت تحترف أساليب الالتفاف على هذه القوانين لتمويل نفسها ومنظومتها العسكرية في المنطقة، وستستمر في هذا النشاط حفاظاً على نفوذها في مداها الحيوي، والذي يحتل أولوية قصوى للقيادة الإيرانية.