على الرغم من الصدمة السياسية الحادة التي أصابت الآشوريين - السريان في إقليم كردستان، بعد إلغاء المحكمة الاتحادية العراقية العليا مقاعد الكوتا الخاصة بهم في برلمان الإقليم، فإن مبادرات ثقافية وسياسية عدة تتراكم بشكل شبه يومي في الإقليم، بغية إحياء الوجود الآشوري السرياني فيه.
تقدّمت المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في حكومة إقليم كردستان بمبادرة لاستخدام السريانية لغةً أساسية في المراسلات، إلى جانب الكردية، وخصوصاً في المديريات والأقضية ذات الأغلبية السكانية السريانية، مثل بلدة عينكاوا في شمال غرب العاصمة أربيل.
ووجّهت حكومة الإقليم كتاب شكر إلى المديرية ومبادرتها، من طريق وزير النقل في حكومة الإقليم آنو جوهر. كذلك، أشادت نادين ماينزا، رئيسة مجلس الحرّيات الدينية الدولي، بهذا الحدث قائلةً في تصريحات صحافية: "من الرائع أن نرى حكومة إقليم كردستان تستخدم السريانية، لغة السيد المسيح، لغةً أساسية للمنطقة المسيحية السريانية الآشورية الكلدانية في عنكاوا.. ونعرب عن شكرنا لرئيس الوزراء مسرور بارزاني على التزامه المستمر الحرّية الدينية ودعم هذا المكون الأساسي في العراق".
فعاليات ومقدّمات
جاء هذا الحدث بعدما فاز أمير مجيد، الطالب الكردي في جامعة كردستان شبه الحكومية، بجائزة مسابقة البحث والابتكار الجامعية الحادية عشرة لجامعة أبو ظبي، عن مشروعه ترجمة النصوص السريانية بالذكاء الاصطناعي. فالمشروع يساعد أكثر من 6 آلاف طالب آشوري - سرياني يدرسون السريانية في أكثر من 50 مدرسة حكومية في إقليم كردستان، ونحو 125 موظفاً حكومياً في المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية، يجهدون لإنتاج معارف وفنون باللغة السريانية.
كذلك، افتتحت القنصلية العامة للولايات المتحدة في أربيل، بالتعاون مع المديرية السريانية، معرضاً بعنوان "المرأة في التاريخ"، الذي استخدم تقنيات حديثة جداً، بغية تسهيل وصول الجمهور والطلبة والباحثين إلى أعمال التاريخ والثقافة السريانيين. إذ قال القنصل الأميركي مارك سترو في افتتاح المعرض: "نحن سعداء جداً بالمشاركة في إحياء هذا المعرض، لتسليط الضوء على مساهمات المجتمع السرياني التاريخية. وهذه المبادرة هي شهادة على القوة الرائعة للتعاون. لقد اجتمع شركاء من حكومة الولايات المتحدة وجامعة دايتون في العراق وائتلاف الآثار، للبحث بدقة وتسليط الضوء على المساهمات المهمّة للنساء السريانيات المتميزات".
كذلك، عُقد في أربيل مهرجان "السيمبوزيوم السرياني الأول" المعرفي والثقافي، متناولاً الأحوال السياسية والديموغرافية والأبعاد اللغوية والحياتية والأدبية للناطقين بالسريانية في العراق والعالم، ما أعاد الأمل بإمكانية إحياء هذه اللغة والثقافة المهدّدة بالانقراض.
بلا حساسيات
جرت هذه الفعالية برعاية خاصة من رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني طوال ثلاثة أيام في أواسط الشهر الجاري، وشهدت عشرات الندوات والمحاضرات والنقاشات المعمقة، الخاصة بأوضاع هذه الجماعة العرقية - الدينية.
وعلى الرغم من الطابع الثقافي - اللغوي للمؤتمر، بحسب تابعية المؤسسة المنظمة المرتبطة بوزارة الثقافة في كردستان، فإن الهاجس السياسي كان واضحاً في كل ندوات المؤتمر ونقاشاته، سواء من الشخصيات السريانية المشاركة أو الباحثين المنشغلين بالقضايا السريانية. فهذه المجموعة العرقية - الدينية، وعلى مختلف تسمياتها الكلدانية والآشورية والآثورية، تعاني تراجعاً حاداً في عددها، بسبب الحروب والهجرة وتضاؤل الخصوبة. فالسريان الذين كانوا يقدّرون بنحو 5% من سكان العراق و10% من سكان سوريا قبل نحو عقدين، تراجعوا ليكونوا أقل من 1% في العراق و2% في سوريا.
تراوحت موضوعات ندوات المؤتمر بين قضايا مثل "الجغرافية السريانية للعراق من الحقبة الساسانية إلى الإسلام المبكر" و"الكشف عن البلدات السريانية في الجغرافية التاريخية لتكريت حاضرة المفريانية" و"فك شفرة دور المسيحيين السريان في إمارة هكاري من خلال الميرنامة" و"المراسلات السريانية في الأرشيف العثماني" و"السريانية كثقافة حية في بلاد الهنود" و"الهوية وسط الصراع، و"تسيس وتحشيد المسيحيين السريان في شمال شرق سوريا أثناء الحرب الأهلية 2011 – 2016" و"قرن من التغيير الديمغرافي، كيف يستمر الآشوريون بخسارة أراضيهم التاريخية؟ محافظة دهوك 1992 – 2022" و"الموجز في أهوال وأحوال مسيحيي بلاد ما بين النهرين الجغرافية والديمغرافية: خطوط التماس العرقية وخطوط الصدع الطائفية". وقد كشفت هذه الموضوعات بجلاء كيف أن المضامين السياسية، والمتصلة تحديداً بالهواجس الديموغرافية، تطغى على اهتمامات المنشغلين بشؤون هذه الجماعة.
وعبّر المشاركون عن امتنانهم لمستوى الحرّية في تناول المسائل الحساسة أثناء المؤتمر، إذ كان النقاش في العديد من القضايا الجغرافية والديموغرافية والسياسية، التاريخية والراهنة، التي يشكّل الأكراد والسريان والعرب والأتراك أضلاعاً في قضاياها، من دون حساسيات.
بقاء السريان
يسلّط الباحث والكاتب السرياني كرم دولاني الضوء على ما سمّاها "القيمة السياسية والثقافية، وحتى الاقتصادية المضافة التي يشكّلها حفظ بقاء السريان وثقافتهم في الحياة العامة لكيان سياسي مثل إقليم كردستان"، ويقول لـ"النهار العربي": "يعرف إقليم كردستان أهمية تقديم نفسه كياناً حداثياً، ملتزماً الكثير من قيم الحداثة والديموقراطية ومراعاة التنوع وحفظ التراث الثقافي والإنساني لسكانه المحليين، في وقت تتعرّض فيه باقي الجماعات المسيحية في المنطقة لضغوط سياسية وحياتية رهيبة".
ويضيف: "كانت القوانين العامة في الإقليم الجهة التي تفرض كوتا برلمانية مقطوعة للسريان الآشوريين كقومية ضمن برلمانه المحلي، ويحتفي بعودة البطريركيات المسيحية الشرقية إلى كردستان لتستقر فيه، ويضع قوانين وإرشادات واضحة لحفظ الحقوق والثقافية والحرّيات الاجتماعية للمسيحيين من مواطني الإقليم، أو المهاجرين والنازحين إليه. فالقوى السياسية والجهاز الحكومي في كردستان يعرفون أن ذلك كله يضفي الصلابة على النظام السياسي في الإقليم، ويسمح بتقديمه نموذجاً مختلفاً عن التجارب الأخرى في المنطقة".
وخرج المؤتمر ببيان ختامي، أكّد فيه المجتمعون أهمية "مفاتحة رئاسة الوزراء في الحكومة الاتحادية بضرورة إعادة فتح هيئة اللغة السريانية ضمن المجمع العلمي العراقي، ومفاتحة رئاسة الوزراء في إقليم كردستان لغرض تأسيس الأكاديمية السريانية، والاهتمام باللغة السريانية والدراسات السريانية"، من خلال دعم اتحاد الأدباء والكتاب السريان، كما أوصت اللجنة في ختام توصياتها بضرورة الاستمرار بإقامة مثل هذه المؤتمرات في الوطن.