تشهد الساحة السياسية العراقية "صراعاً تشريعياً" حاداً بشأن إصدار قانون "إلغاء قرارات الاستيلاء الصادرة عن مجلس قيادة الثورة في زمن النظام السابق" الذي سيؤدي إلى استرجاع مئات الآلاف من الأكراد والتركمان ممتلكاتهم، من أراض زراعية وعقارات، بالذات في محافظة كركوك، كان النظام السابق قد انتزعها منهم عبر قرارات أمنية وسياسية صادرة عن مجلس قيادة الثورة خلال أعوام 1975-1979.
وتُجمع الكتل البرلمانية الكردية، وتساندها الكتلة التركمانية في البرلمان العراقي، على ضرورة إقرار هذا التشريع "من دون أي مساومة برلمانية أو سياسية"، لأنه جزء اعتيادي من القوانين والتشريعات التي يجب أن تُعدّل أو تتغير حسبما جاء في الدستور العراقي الجديد، الذي ندد بأفعال النظام السابق، وأقر بعدم مشروعيتها. كذلك لأن إصدار التشريع هو فرض على البرلمان العراقي، بحسب المادة 140 من الدستور العراقي، التي ألغت كل القرارات والتشريعات التي أصدرها النظام المذكور بغرض إجراء التغيرات الديموغرافية وتثبيت عمليات التعريب.
الكُتل العربية ضمن البرلمان العراقي، السُنية منها بالذات، تحذر من إمكان إصدار التشريع، لأنه سيمس الحياة اليومية والعامة لمئات الآلاف من المواطنين، الذين "بنوا أنماط حياتهم ومصادر رزقهم على هذه الممتلكات والعقارات والأراضي التي حصلوا عليها من النظام السابق". الكتل السُنية تعرب عن تعاطفها وتفهمها لمطالب الكرد والتركمان باستعادة ممتلكاتهم، لكنها تفترض أن مجموعات من التعويضات والإجراءات البديلة يجب أن تتخذها الحكومة المركزية والمحلية، لتعويض المتضررين، وليس نزع الملكية مرة أخرى.
وللغاية عُقد لقاء تشاوري موسع بين الكتل الكردية ونظيرتها العربية "السُنية"، في منزل رئيس مجلس النواب بالإنابة محسن المندلاوي، بحضور وزير العدل العراقي خالد الشواني ورئيس اللجنة العليا لتطبيق المادة 140 من الدستور العراقي، ناقش خلاله المجتمعون تفاصيل الخلاف بشأن القانون.
وقال برلماني من الحزب الديموقراطي الكردستاني حضر الاجتماع لـ"النهار العربي" إنه تمكن من تفكيك الهواجس المتبادلة، فالبرلمانيون الأكراد اعتبروا الأمر جزءاً من استرداد الحقوق، ولكل العراقيين المتضررين، من دون مسٍ بالسلام الاجتماعي والعيش المشترك.
تتجاوز مساحات الأراضي التي يمكن أن تتغير ملكيتها في حال إقرار هذا التشريع 1.2 مليون دونم (قرابة 3000 كيلومتر مربع) في محافظة كركوك وحدها، في مناطق دبس وسركران وداقوق وشوان وآلتون كوبري ومركز المحافظة، وما يزيد عن 10 آلاف دونم (25 كيلومتراً مربعاً) في منطقة طوزخورماتو في محافظة صلاح الدين. لكن الكتل الكردية لا تمانع أن يكون التشريع عاماً، ويشمل إلغاء كل قرارات الاستيلاء التي أصدرها النظام السابق، في كل مناطق العراق.
وبحسب قانونيين، تواصل "النهار العربي" معهم، فإن الخلاف راهناً يتعلق بتفاصيل التشريع الذي سيصدر، المؤلف من 5 مواد فحسب، وخاص بالقرارات الصادرة عن "مجلس قيادة الثورة بين عامي 1975-1979، ثمانية منها بالذات، التي تشكل البنية التي استندت إليها القرارات اللاحقة. قبل التعديلات والمشاورات الثنائية، كان التشريع يلغي كل قرارات الاستيلاء التي أصدرها مجلس قيادة الثورة، واستولى بحسبها على ممتلكات عقارية وزراعية للأكراد والتركمان، ومنحها لمواطنين عرب مستقدمين من محافظات أخرى.
الخلاف الآخر يتعلق بنوعية الأراضي والممتلكات التي يجب استعادتها بحسب التشريع الجديد. فالكتل الكردية تطالب بأن تكون كل أنواع الملكيات المُستولى عليها، لكن نظيراتها العربية تقترح أن تكون تلك التي لم ينل ملاكها الأولون تعويضات مالية من النظام السابق. لكن مقترحات مقابلة عاد وقدمها البرلمانيون الأكراد، طالبوا فيها بأن تكون الاستعادة كاملة، على أن يُعيد الأكراد والتركمان الذين تمّ تعويضهم ما حصلوا عليه من أموال وقتئذ، بما يوازي قيمتها المالية راهناً، قياساً بسعر الذهب.
ثمة تفاصيل أخرى تتعلق بآلية استرجاع الأراضي التي بنى "المستولون عليها" عقارات وأبنية سكنية، أو الأراضي التي بيعت أكثر من مرة. كذلك ثمة تساؤلات حول الأراضي والممتلكات التي تم الاستيلاء عليها وتقديمها لمصلحة المؤسسات العامة، بالذات وزارتي الدفاع والنفط. وتقدم الكتل الكردية مقترحات كثيرة لتجاوز تلك التفصيل، مثل صدور قرارات التعويض في المحافظات التي قدموا منها إلى كركوك.
الباحث القانوني زوراب حسن، شرح في حديث إلى "النهار العربي" ما أسماه التراكب المعقد بين ما هو دستوري/قانوني وما يناظره من حياة يومية معيشة بين ملايين المواطنين، موضحاً أن التوافقات السياسية بين القوى الرئيسية في البرلمان والمجتمع وحدها قادرة على حفظ السلم الاجتماعي في حال تطبيق مثل هذه التشريعات الجديدة.
وأضاف حسن: "نحن نتحدث عن قوانين صدرت قبل قرابة نصف قرن، أي فترة زمنية طويلة للغاية، تمكن المستقدمون خلالها من تشييد دورة حياة كاملة لهم في أماكن استقرارهم الجديدة. بدورهم، فإن الذين انتُزعت أراضيهم وممتلكاتهم فقدوا كامل حياتهم الطبيعية خلال المرحلة نفسها، تحولوا من مُلاك وميسورين إلى مهجرين وعمال هبطوا في السلّم الاجتماعي والتعليمي، وراكموا مرارة قومية وسياسية كبرى طوال هذه السنوات، كانوا يعتقدون أن تلك القرارات التي استجابوا لها كانت سبباً في مأساتهم اليومية كل وقت".
وأردف: "لأجل ذلك نحن أمام تراجيديا سياسية وحياتية. المشكلة أنها مركبة مع شقاق سياسي وطني واسع للغاية، وفي كل التفاصيل. كذلك لأن القوى السياسية العراقية، أو أغلبها، لا تبالي إلا بزيادة أصواتها الانتخابية، من دون قواعد وأساسيات أولية للعمل السياسي".