مع اقتراب موعد إجراء الإحصاء السكاني العام في العراق، يطالب أكراد العاصمة بغداد بإحداث إجراءات وحقول إحصائية خاصة بهم، بعدما فقدوا كل ممتلكاتهم ومنازلهم وحقوقهم السياسية بسبب سياسات النظام السابق، وعدم إيلاء النظام الجديد مشكلاتهم أي أهمية، على أن تكون تلك الحقول والتصنيفات أداة لإصدار قوانين وقرارات تعوضهم عما جرى بحقهم طوال العقود الماضية.
وبرغم قول وجهاء أكراد العاصمة بغداد إن أعدادهم تتجاوز مئات عدة من الألوف، لا يكاد الباحث يعثر راهناً على مناطق وأحياء سكنية كردية تماماً في مختلف مناطق العاصمة، وهم الذين كانوا يشغلون تقريباً ربع أحياء المدينة حتى أوائل السبعينات من القرن المنصرم، بالذات المركز التجاري والمناطق الحيوية وسط المدينة.
أكراد بغداد كانوا امتداداً للأرياف والبلدات الكردية في أقصى شرق وسط العراق، عند الحدود مع إيران في محافظتي ديالى والكوت، ومن مدن خانقين ومندلي وبدرة وجسار وأريافها الخصبة على دفتي نهر الكروان، وقد استقروا في المدينة منذ قرون، وشكلوا أحياءً شبه مغلقة خاصة بهم، على عادة أهل المدن التقليدية، في أحياء "باب الشيخ" والكفاح والصدرية، وفي مراحل لاحقة انتشروا في منطقة الشورجة والقطاعات 14-18 من مدينة الصدر.
حافظ أكراد العاصمة على لغتهم الكردية طوال قرون، وإلى جانبها كانوا يحملون وعياً ونزعة قومية كردية تماماً، والآلاف منهم انخرطوا في الأحزاب السياسية وشاركوا في الحركات الثورية الكردية. كما شكل العديد منهم البنية الأساسية للصحافة والمعرفة باللغة الكردية، خصوصاً بعد تشييد الإعلام الرسمي ودائرة اللغة الكردية في أوائل السبعينات من القرن المنصرم في العاصمة.
الأغلبية العظمى من أكراد بغداد مسلمون على المذهب الشيعي الإثني عشري، وكانوا يُسمون "الأكراد الفيلية"، وبسبب موقعهم المركزي في العاصمة منذ قرون، وشكل الروابط التي كانت تجمعهم مع الأكراد في باقي مناطق العراق وتركيا وإيران، سيطروا إلى جانب يهود العاصمة على العمل التجاري في المدينة وشكلوا نُخبة اجتماعية وثقافية خاصة في المدينة.
الباحث والكاتب فوزي ملكشاه الفيلي، شرح في حديث إلى "النهار العربي" أن هويتهم القومية والمذهبية والتجارية الاقتصادية تآلفت مجتمعة، لتخلق منهم "عدواً وظيفياً مثالياً" لمختلف الأنظمة القمعية التي حكمت العراق طوال عقود كثيرة، وأضاف: "لشدة التماسك الداخلي في ما بينهم، وقدراتهم الاقتصادية وعلاقاتهم الخاصة مع الحركات الكردية المسلحة، كان مختلف الزعماء السياسيين والأنظمة التي حكمت العراق، بما في ذلك العهد الملكي، يستشعرون خطراً داهماً من الأكراد الفيليين/البغداديين، لأنهم كانوا متأكدين من قدرتهم على التحرك الجماعي في أي وقت، والتأثير على مختلف التيارات والشخصيات السياسية والعسكرية في البلاد. لأجل ذلك، صدرت القرارات الجائرة خلال الأعوام 1975-1979 من القيادة المنحلة لحزب البعث الحاكم وقتئذ، والتي قضت بتهجير مئات الآلاف من الأكراد الفيليين إلى إيران، تهجيراً تعسفياً وعنيفاً، ومن دون أي سبب وجيه، خلا ادعاء ولائهم لإيران، إلى أن صدر القرار الأكثر جوراً في عام 1980، بعد اندلاع الحرب الإيرانية العراقية، وسحب الجنسية من مئات الآلاف من أكراد العاصمة، ومنعهم من امتلاك أي شيء مما في حوزتهم، بما في ذلك الحلي النسائية والثياب الشخصية والشهادات الجامعية".
وتابع فيلي: "صحيح أنه ليس هناك وجود ديموغرافي وسكاني وقطاعي كردي واضح في العاصمة بغداد، على رغم وجود الجمعيات والتنظيمات السياسية في ما بينهم، لكنهم فقدوا ما كانوا يحتضن وعيهم وسلطتهم الكلية، أي أحياءهم الخاصة، التي تفككت بحكم التبدلات التي أصابت الأحياء القديمة من العاصمة، واضطرار الآلاف من سكان الوسط التجاري إلى بيع بيوتهم الأثرية القديمة والهجرة إلى الأطراف، إلى جانب هجرة الآلاف بسبب الحرب الطائفية طوال سنوات، فالأحياء الكردية كانت الأكثر اختلاطاً من كل أحياء بغداد. يضاف لذلك عامل سياسي مهم، فأكراد بغداد كانت تجمعهم اللغة الكردية والشعور الداخلي بالانتماء إلى أرومة قومية واحدة، ما كان يشد أزرهم ويوحد خطابهم ونشاطهم الاقتصادي والسياسي، وهو أمر تفكك بحكم زيادة وتيرة النزعة الطائفية، وميول الكثير من الأكراد البغداديين إلى الانخراط في الأحزاب الدينية/الطائفية مثل رئيس البرلمان الحالي بالإنابة محسن المندلاوي".
بعد عام 2003، وصدور الدستور الجديد، صدرت الكثير من القرارات الخاصة بحق الأكراد بالعودة إلى أحيائهم التاريخية والحصول على أوراقهم الرسمية، كذلك خصصت لهم كوتا في البرلمان العراقي، ومقاعد مخصصة في مجالس محافظات بغداد وواسط وغيرها من المؤسسات التشريعية، إلا أنهم يشكون من بقاء الكثير من مشكلاتهم عالقة، خصوصاً أن إجراءات هيئة التنازع على الملكية والجهاز القضائي بطيئة جداً، ولا تستجيب لكتلة المطالب التي يتقدمون بها.
إلى جانب ذلك، كان أكراد العاصمة يشرفون بأنفسهم على الكثير من المؤسسات والجهات الفاعلة الخاصة بهم، خصوصاً في أحيائهم الخاصة، مثل مجلس الرواس ومقام الشيخ عبد القادر الجيلاني ودار النقيب ومقبرة الجيلاني والعشرات من المدارس والتكايا التقليدية، مثل مدرسة عاتكة خاتون والمدرسة الفيلية، إلا أن أغلبها خرجت من سيطرتهم لمصلحة الأوقاف وأمانة بغداد، التي تصرفت بها بحسب مصالحها وترتيباتها الخاصة، وفككت قدرة المشرفين عليها ومكانتهم الرمزية ضمن مجتمعهم.
ويطالب الأكراد البغداديون بأن يتضمن الإحصاء أبواباً خاصة بهم، تفتح الباب أمام تشريعات تعيد إليهم ممتلكاتهم وحقوقهم السياسية والتشريعية التي سُلبت منهم، إذ يرفضون أن تكون مسألتهم مجرد إعادة جنسية سُلبت منهم عام 1980 بقرار شخصي، بل مجموعة إجراءات تعيد إليهم شخصيتهم الاجتماعية والسياسية الخاصة.