وصل التاجر السوداني الخمسيني عماد الدين أحمد العام الماضي إلى السعودية لأداء العمرة، لكنّ اندلاع الحرب الدامية في بلاده حال دون عودته، فانضمّ إلى الآلاف من مواطنيه العالقين في الرياض والذين خلقوا ما يشبه "خرطوم صغيرة".
واضطر أحمد، تاجر الأدوات الكهربائية الذي جاء من مدينة كوستي جنوب الخرطوم رفقة زوجته ووالدته، للإقامة لدى عائلة من أقاربه، مستفيداً من قرار ملكي سعودي حوّل تأشيرات العمرة للسودانيين لإقامة مؤقتة بشكل مجاني ويتمّ تجديدها كلّ ثلاثة أشهر.
ويجد أحمد المشتاق للعودة لبلاده تسليته الوحيدة حالياً في تناول إفطار جماعي رفقة مواطنيه في منطقة غبيرا الفقيرة في جنوب الرياض التي تعج بمطاعم ومحال تحمل أسماء سودانية.
وقال أحمد الذي ارتدى الثوب السوداني الأبيض واعتمر العمّة التقليدية، لوكالة فرانس برس، "ليس بوسعي العودة للسودان لأن الظرف غير مؤات والحرب لا تزال دائرة والانتهاكات حاصلة مع انقطاع الخدمات".
وفيما كان العشرات يتناولون الأطباق السودانية مثل القراصة بأيدام الدجاج والعصيدة بالبامية، أكّد بأسي أنّ "الرجوع سيكون صعباً".
وأدى القتال منذ 15 نيسان (أبريل) 2023 بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، الرجل الثاني السابق في السلطة العسكرية، إلى مقتل آلاف الأشخاص.
كما أسفر عن نزوح نحو ثمانية ملايين آخرين، لجأ أكثر من 1,5 مليون منهم إلى الدول المجاورة، بحسب الأمم المتحدة.
ومع اليوم الأول للصراع، خرج مطار الخرطوم الدولي من الخدمة، وبات مطار بورتسودان في أقصى شرق البلاد على البحر الأحمر هو النافذة الوحيدة للسودانيين على العالم.
لكن مع خطورة السفر بين المدن، أحجم كثيرون عن العودة لزيارة ذويهم في رمضان والعيد كما اعتادوا لسنوات.
وفي حال قرّر أحمد سلوك هذا الطريق، سيتعيّن عليه الهبوط جواً أولاً في بورتسودان، ثم قطع أكثر من 1100 كلم بالسيارة في رحلة محفوفة بالمخاطر مروراً بالخرطوم التي تشهد قتالاً عنيفاً.
وقال أحمد: "لا أؤمّن على نفسي أو مالي على الطريق الطويل، لذلك الرجوع صعب في الفترة الحالية". ويرسل له أخوه أموالاً كل فترة لتغطية نفقاته في الرياض رغم كساد التجارة بالسودان.
وأضاف: "حاليا لا أجد سعادتي إلا وسطهم"، مشيرا إلى رفاقه الذين كانوا يتبادلون السلام على الطريقة السودانية بوضع اليد اليمنى على الكتف اليسرى.
"التضحية بالسفر"
وتسبّب النزاع في السودان بكارثة إنسانية، إذ يحتاج نحو 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان السودان، إلى المساعدات. ويواجه ما يقارب 18 مليوناً بينهم 730 ألف طفل انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، وفق بيانات الأمم المتحدة.
وحذّرت منظمة الصحة العالمية في شباط (فبراير) من أن مناطق نزاع في السودان معرّضة لخطر مجاعة "كارثية" بين نيسان (أبريل) وتموز (يوليو)، وهي "فترة عجاف" بين موسمَي الحصاد.
ومع صعوبة العودة راهناً، قرّر الحلاق عصام يوسف (43 عاماً) التضحية بالبقاء وإرسال الأموال لعائلته التي فرّت من الخرطوم إلى ولاية نهر النيل في شمال البلاد بعيداً عن المعارك.
وقال الأب لخمسة أطفال "أصبحت مسؤولاً عن أكثر من 17 شخصاً أرسل لهم 80 في المئة من راتبي الشهري".
وأضاف وهو يتابع أخبار بلاده من خلال هاتفه المحمول أنّه كان يخطط للسفر لكنه قرر "التضحية" وإرسال الأموال لسدّ جوع أهله، مشيراً أيضا إلى "عصابات تتربص بالمغتربين العائدين من السفر لسلب أموالهم. الأمر خطير جداً".
وبقي أحمد ويوسف لبعض الوقت في المكان بعد صلاة المغرب ثم شرب الشاي والسمر في أجواء ودية.
وأكّد مدير المبيعات في شركة "بدر" للطيران السودانية الخاصة في الرياض بشير عبد العظيم أنّ أعداد السودانيين المسافرين من السعودية إلى السودان انخفضت بشكل حاد.
وقال لفرانس برس: "الأعداد قلّت بأكثر من 50 بالمئة"، وتابع بأسى: "الأغلب حالياً السفر من السودان للسعودية وليس العكس".
ويحاول عبد العظيم نفسه راهناً إخراج أفراد عائلته المتبقين من السودان إلى السعودية.
"ننتظر اليوم التالي"
ولعبت القوات البحرية السعودية دوراً محورياً في إخراج آلاف الرعايا الأجانب من السودان.
كما استضافت مدينة جدة السعودية جولات محادثات لم تسفر سوى عن تعهّدات عامة بوقف النزاع في السودان الذي كان يشهد مرحلة صعبة من الانتقال الى الديموقراطية منذ الانتفاضة التي أطاحت بعمر البشير في نيسان (أبريل) 2019.
ونهاية الشهر الماضي، أعرب مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى السودان عن أمله باستئناف طرفي النزاع في السودان الحوار بعد رمضان.
وحتى يتحقّق الحلم البعيد المنال لدى السودانيين في الرياض، قال مدير المطعم عمر عربي إنّ الإفطار الجماعي ينسي السودانيين ويلات الحرب "ولو لساعة".
وفيما كان عاملو مطعمه يرفعون مشمعاً بلاستيكياً فرش على سجاد أحمر اللون كسى الأرض خارج محله، قال عربي بابتسامة عريضة: "الأجواء هذا العام مختلفة عن السابق بسبب الأحداث لكن السودانيين بحاجة للأجواء السودانية كي تذكّرهم بالسودان".
وتابع الشاب الذي أحضر زوجته وأبنائه الستة ووالديه بل وسيارته الرباعية الدفع من السودان، فيما كانت العصائر المثلجة والحلويات السودانية تقدم مجانا،ً أنّ "الناس يحبّون الونس وينتظرون اليوم التالي للتجمّع" مجددا.
لكنّ صاحب محل الحلويات المجاور صالح محمد (53 عاماً) الذي قُتل جيرانه وفرّ أهله من الخرطوم يقول بلهجة حزينة "ما حصل للبلاد لا يمكن أنّ ننساه أبداً".