تعيش العاصمة الليبية حالةً من الفوضى والانفلات الأمني، تتجلّى مظاهرها اليومية في القصف وتبادل النار، إذ سقطت قذيفتان على منزل لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة في حي الأندلس الراقي، وهو الحادث الذي جرى التكتم على تفاصيله وسط تضارب في المعلومات عما إن كانت القذيفتان أُطلقتا من البحر بواسطة "آر بي جي"، أم من طائرة مسيّرة "درون".
تكتّم شديد
وكان لافتاً عدم إعلان السلطات عن فتح تحقيق لكشف ملابسات الحادث والجهة التي تقف وراءه، ما أثار تساؤلات بشأن توقيت الإنفلات الأمني، وعلاقته بقرب انتهاء المهلة التي حدّدها وزير الداخلية عماد الطرابلسي لإخلاء طرابلس من الميليشيات مع نهاية شهر رمضان.
وفيما اعتبر مراقبون أنّ القذائف التي استهدفت منزلاً للدبيبة حملت رسالة تحذيرية للأخير في حال مضى وزيره في تنفيذ تعهداته، ذهب فريق ثانٍ إلى القول إنّ الرسالة كانت موجّهة إلى سكان العاصمة الليبية، خصوصاً المطالبين بتفكيك الميليشيات، كون طرابلس تعيش هذه الحالة من الفوضى الأمنية في ظل سيطرة المجموعات المسلحة على مفاصلها فكيف برحيلها؟
مصادر وثيقة الصلة أكّدت لـ"النهار العربي" أنّ المجموعات المسلحة الرئيسية في طرابلس "لم تُبلّغ بأي تعليمات تتعلق بإخلاء مناطق تمركزاتها من مسلحيها، والعودة إلى ثكناتها، بل إنّها تمارس دورها في ضبط الأمن ومكافحة التهريب".
وكان جهاز "دعم الاستقرار" أعلن قبل أسابيع قليلة عن ضبط 12 متهماً بالاتجار بالحبوب المخدرة، في وقائع متفرقة في العاصمة طرابلس. وقبلها بأيام قليلة أعلن الجهاز عن إحباط تهريب 40 ألف لتر من وقود الديزل في بلدة نسمة غرب ليبيا.
"أعقد من قرار وزير"
وأوضحت المصادر أنّ ملف تفكيك الميليشيات "أعقد من مجرد قرار يصدره وزير، بل يرتبط تنفيذه بشكل وثيق الصلة بترتيبات دولية على الصعيدين السياسي والأمني وإنجاز ملفي انتخاب سلطة جديدة وتوحيد المؤسستين الأمنية والعسكرية".
وحذّرت من أنّه "من دون هذه الترتيبات وإبرام اتفاقات تحافظ على مكاسب هذه المجموعات المسلحة قد تشهد طرابلس حرباً مفتوحة بين الميليشيات المتصارعة"، لافتة أيضاً إلى أنّ إخلاء طرابلس من المجموعات المسلحة الرئيسية "سيُشجّع خصومهم وخصوم الدبيبة في آن واحد، المتمركزين في المدن المحيطة على دخول العاصمة الليبية بهدف السيطرة عليها".
ورجحت المصادر أن تقتصر تعهدات الطرابلسي على تقليص انتشار المجموعات المسلحة في الشوارع مع نشر مجموعات شرطة يوكل إليها تأمين الشوارع وتنظيم المرور.
حشود عسكرية ومخاوف من انهيار أمني
وكان حادث استهداف منزل الدبيبة تزامن مع توتر أمني كبير شهدته العاصمة الليبية وخارجها، نتيجة حشود وتحركات عسكرية للجماعات المسلحة مختلفة الولاء. وأظهرت مقاطع فيديو جرى تداولها على نطاق واسع عبر منصّات التواصل الاجتماعي، تحركات واسعة لأرتال مسلحة، خارج المدن المتاخمة للعاصمة ومتّجهة نحو ضواحيها الجنوبية، قابلتها حشود داخل طرابلس تتبع "كتيبة 444" إلى جانب عناصر وآليات تابعة لجهاز الأمن العام، وأخرى تتبع إدارة مكافحة الإرهاب، ما أثار مخاوف سكان طرابلس وأحيائها الجنوبية من اندلاع مواجهات مسلحة.
رئيس مركز العرب للدراسات السياسية والأمنية محمد فتحي الشريف أشار بأصابع الاتهام إلى ميليشيات في طرابلس باستهداف منزل الدبيبة، مرجحاً أنّ الحادث رسالة إلى رئيس الحكومة.
ولفت الشريف لـ"النهار العربي" إلى مواجهات مسلحة نشبت خلال الأسابيع الاخيرة بين تلك الميليشيات المختلفة الولاء والإيديولوجيات، بالتزامن مع تعهدات الطرابلسي بإجلائهم من العاصمة، وهو ما ترفضه تلك المجموعات.
وفي 22 الشهر الماضي، جدّد وزير الداخلية المكلّف بحكومة الوحدة الوطنية، التأكيد على إخلاء العاصمة الليبية من التشكيلات العسكرية كافة نهاية شهر رمضان، بعدما كان كشف في شباط (فبراير) الماضي عن مشاورات ومفاوضات لأكثر من شهر، أسفرت عن التوصل إلى اتفاق مع الأجهزة الأمنية لإخلاء طرابلس بالكامل في رمضان. وقال: "لن يكون فيها فقط سوى عناصر الشرطة والنجدة والبحث الجنائي، وهي أجهزة تابعة لوزارة الداخلية".
إصلاح القطاع الأمني
ويتزامن تكرار تلك التعهدات، مع معلومات عن إبرام الدبيبة عقداً مع شركة "أمينتيوم" الأمنية الأميركية بهدف "إصلاح القطاع الأمني ودمج التشكيلات" في المنطقة العسكرية ضمن هياكل الجهاز الأمني والعسكري الرسمي، بالتنسيق مع رئاسة اركان قوات الغرب. وتُشير المعلومات إلى أنّ العقد يتضمن أيضاً اختيار مجموعات من العسكريين لتدريبهم على مهام حراسة المنافذ والحدود والمواقع الحيوية، وتدريب مجموعات أخرى على المهام الشرطية والأمنية بما في ذلك أنظمة المراقبة.
ووفقاً للمركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية، فقد زار نائب الرئيس العملياتي الأول في الشركة جون بوزارث، طرابلس، مطلع شباط الماضي. وکذلك وصل رئیس الشرکة في الشهر نفسه إلی مطار معیتیقة برفقة 70 عنصراً، استعداداً لتسلم مهامهم، بالتزامن مع إعلان مفاجئ صدر عن جهاز "الردع لمکافحة الإرهاب والجریمة المنظمة"، التابع لحکومة الوحدة الوطنية، بسحب جمیع أفراده أیضاً من المطار الدولي ومیناء طرابلس البحري.
وأضاف المركز: "کما زار أفراد الشرکة الأمیرکیة معسكر التكبالي في منطقة صلاح الدین بطرابلس، ومقر الأکادیمیة البحریة في الضاحیة الغربیة لطرابلس، ومعسكر الحرشة في مدینة الزاویة (غرب طرابلس)، ومن المحتمل زیارة المزید من المواقع العسكرية في مناطق شرق طرابلس، بهدف دراستها کمواقع لتدریب عناصر الشرطة والجیش اللیبيين. ومن المتوقع وصول دفعة إضافیة من عناصر الشرکة في الفترة المقبلة بعد تجهیز المقار الخاصة بهم، حیث سیتولون مهام التدریب والتسلیح والدعم اللوجستي والفني للعناصر المسلحة".
وإذ انتقد المركز في تقرير له إبرام هذا الاتفاق، شدّد على أنّ "الدول التي تحترم ذاتها ومكانتها لا تتعامل وتتعاقد في مجالات التدریب والتسلیح واللوجستیات العسكرية مع شرکات یمكن تصنیفها ضمن شرکات المرتزقة"، وحذّر من أنّ هذه الخطة تهدف لشرعنة وجود التشكيلات المسلحة التي تعج بها المنطقة الغربیة، وتعزیز دورها السیاسي في المرحلة المقبلة بعد توحیدها، وقد يكون تمهیداً لدفعها نحو المواجهة العسكرية مع قوات الشرق اللیبي، والتي تدعمها شرکة "فاغنر" الروسية، ما سیعید البلاد إلی حالة الفوضی الأمنیة والحرب الأهلیة من جدید.
وقال: "إذا ما کان هدف الدبیبة من التعاقد مع هذه الشرکة هو استدعاؤها لحمایته من خصومه في الغرب والشرق، فإنّ هذه تُعدّ خطیئة أکبر تحتاج لمعالجة عاجلة".