ينتظر عامر نهاية شهر نيسان (أبريل) الجاري بفارغ الصبر لتسلّم راتبه الجديد بعدما أنفق كل راتبه للشهر الماضي.
يقول الموظف الحكومي الذي يحصل على راتب قدره 1500 دينار (أقل من 400 دولار) فحسب بعد أكثر من 20 سنة من العمل في إحدى المؤسسات الحكومية التونسية إن أجره لا يكفيه الا لبضعة أيام. ويضيف لـ"النهار العربي": "يتبخر الراتب عادة بعد 10 أيام فقط من تسلّمه، أما بقية الشهر فأسحب من البنك في الروج''، ويتابع: "هذا الشهر لم أسحب أي مليم من راتبي لأنني سحبته في الروج قبل تسلّمه بسبب المصاريف اليومية الكبيرة في شهر رمضان وعيد الفطر".
و"الروج" هو معاملة بنكية معروفة في تونس تسمح للزبائن بسحب أموال حتّى وإن لم يتوافر لديهم رصيد، على أن تخصم مباشرة من أول مبلغ يودع في حسابهم مع فرض رسوم إضافية عليهم.
وليس عامر استثناء في تونس، فالسواد الأعظم من الموظفين الحكوميين وغير الحكوميين يؤكدون أن راتبهم لم يعد كافياً لتأمين حاجياتهم وأنهم في حاجة لأكثر من راتب، وهو ما تؤكده الأرقام والدراسات الرسمية وغير الرسمية التي أنجزت في هذا السياق.
وينفق نحو 69 بالمئة رواتبهم بعد أسبوعين من تسلّمها، بينما ينجح نحو 30 بالمئة منهم فقط في تقسيط مرتباتهم على كامل أيام الشهر باعتماد سياسة التقشف والإنفاق على الضروريات، وفق أرقام رسمية صادرة عن معهد الاستهلاك في تونس، ما يكشف حجم معاناة التونسيين مع غلاء المعيشة وتراجع قيمة أجورهم.
مرتبات ضعيفة
وتراوح مرتبات الأجراء والموظفين في تونس بين 700 دينار و1800 دينار، وقد تصل إلى أقل من ذلك بالنسبة لبعض الموظفين في القطاع الخاص.
وتقول منظمة الدفاع عن المستهلك إن القدرة الشرائية للتونسيين تدهورت بأكثر من 50 بالمئة خلال العشرية الأخيرة، ولم يبقَ التونسي قادراً على تسديد نفقاته الشهرية.
وتشير الأرقام المتوافرة عن متوسط الأجور في الدول العربية إلى أن تونس تتذيل أسفل الترتيب إلى جانب كل من سوريا التي تعيش حرباً، ومصر التي يفوق عدد سكانها 100 مليون وسط مؤشرات مرتفعة للفقر، وقدّر متوسط الأجر في تونس بنحو 286 دولاراً.
ويحتاج تحقيق العيش الكريم لأسرة تونسية تتكون من 4 أفراد وفق دراسة أجرتها منظمة "إنترناسيونال ألارت تونس" ومعهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية ومؤسسة "فريدريش إيبرت" في 2021 إلى ما لا يقل عن 800 دولار.
غلاء المعيشة
وفي أيلول (سبتمبر) 2022 أقرت الحكومة التونسية زيادة في أجور القطاع العام بواقع 3.5 بالمئة، يقول المراقبون إنها لا تتماشى وغلاء المعيشة الذي يحاصر التونسيين.
وبحسب معهد الإحصاء الحكومي قدرت الزيادات في أجور الموظفين خلال الفترة الممتدة بين 2015 و2022 بنحو 150 دولاراً.
ويقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية أنيس بن سعيد لـ"النهار العربي" إن الموظف يحصل على راتبه بالعملة المحلية أي الدينار التونسي، في حين يشتري كل شيء بالعملة الصعبة، موضحاً أن "تونس تستورد أغلب حاجياتها بالعملة الصعبة في وقت تراجعت قيمة عملتها مقابل اليورو والدولار خلال السنوات الأخيرة".
ويشير المتحدث إلى أن الأجر الأدنى المضمون في تونس لا يتجاوز 450 ديناراً (نحو 150 دولاراً) ما يساوي ثمن 10 كلغ من لحم الخروف.
وقبل أكثر من 10 سنوات كان سعر الكيلو الواحد من لحم الخروف لا يتجاوز 20 ديناراً، وهو ما يكشف حجم الغلاء المتصاعد منذ أكثر من عقد.
ويرى الجامعي التونسي أن غلاء المعيشة وغياب العقلانية إضافة إلى ضعف الرواتب والزيادات التي تم إقرارها في السنوات الأخيرة، أمور تجعل من رواتب التونسيين غير كافية لتلبية ما يحتاجونه كل شهر.
ويقدر أن عائلة تونسية تتكون من زوجين وطفل واحد تحتاج على الأقل إلى أكثر من 3 آلاف دينار (ألف دولار) حتى تكون قادرة على تلبية مصاريفها الشهرية.
اقتصاد لا يخلق الثروة
ويضيف أن الاقتصاد التونسي لم يعد يخلق الثروة في السنوات الأخيرة بل صار اقتصاداً يوزع الفقر، على اعتبار تراجع نسبة النمو مقابل ارتفاع نسبة المديونية.
وبحسب آخر الأرقام الرسمية لم تتجاوز نسبة النمو في تونس 0.4 بالمئة.
ويشير المتحدث أيضاً إلى أن التونسي لم يعد عقلانياً في مصاريفه، إذ إنه يريد أن يحصل على أشياء ليست له قدرة على تحملها، حتى وإن كان ذلك عبر الاستدانة بمختلف أشكالها، سواء من الأفراد أو البنوك.
وثلث العائلات التونسية غارقة في دوامة الاستدانة بحسب تصريح سابق لرئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي لـ"النهار العربي"، أكد فيه أن ثمة فرداً على الأقل في كل عائلة تونسية عليه ديون.
لكن بن سعيد يقول إن تخلي الدولة عن دورها في قطاعات كثيرة مثل التعليم والصحة والنقل جعل التونسي مجبراً على دفع تكاليف إضافية تتجاوز قدرة راتبه، فـ"التعليم العمومي والصحة والنقل في تدهور لأن الدولة منشغلة بخلاص الديون وليست لها قدرة على الاستثمار في هذه المجالات، لذلك يجبر التونسي على التوجه نحو القطاع الخاص الخاصة وهذا مكلف جداً"، وفق تقديره.
وعن الزيادات في الرواتب التي أقرتها السلطات التونسية في السنوات الأخيرة يقول بن سعيد إنها تظل ضعيفة وغير قادرة على مجاراة نسق الغلاء اليومي الذي يواجهه التونسيون، لأنه لا يقابلها خلق ثروة "وهو ما يعني ارتفاع نسب التضخم بشكل ملحوظ واهتراء المقدرة الشرائية".
وعن الحلول الممكنة يرى أنه "لا بد من مراجعة الدولة لسياسة الأجور والترفيع فيها ومراجعة منظومة الدعم التي تذهب حالياً إلى غير المستحقين، مع ضرورة عودة الدولة للقيام بواجبها الاجتماعي".