يقول مؤسّس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون في كتابه "المقدمة" إنّ "للدول أعماراً ..."، وعمرُ مغارته التي احتمى بها لأربع سنوات تقريباً، تجاوز الـ6 قرون.
في مرتفعات الأطلس التلّي، وعلى ارتفاع نحو 1300 متر عن سطح البحر، هناك قلعة بني سلامة في منطقة تدعى تاوغزوت على بعد كيلومترات قليلة من مدينة فرندة في محافظة تيارت، 400 كيلومتر غرب العاصمة الجزائر؛ وفي القلعة مغارات ثلاث هي ذاتها التي صارت تُعرف بخلوة ابن خلدون.
ثلاث سنوات وعشرة أشهر بين سنتي 1375 و1379، كانت كافيةً لابن خلدون ليُنتج أحد أهم الكتب في التاريخ البشري، قديمه وحديثه.
اعتكف فيها بعد حياة ثريّة عرف خلالها تقلّبات عديدة، اقترب من البلاطات الحاكمة ومن مجالس العلم، وخالط الناس مخالطة العارفين.
المكان كان ملهماً، بل إنه شاهد على ولادة مرجع مهم من مراجع الدراسات الاجتماعية العالمية، وإعلان عن وضع اللبِنات الأساسية لأحد أهم العلوم الإنسانية، علم الاجتماع البشري.
ابن خلدون الذي اختلفت الروايات بشأن مكان ولادته بين تونس والجزائر، قال عنه المؤرخون إنّه "قدّم للفكر البشري فلسفة للتاريخ تُعدّ أعظم عمل لم يسبق أن أنجزه عقل بشري، في أيّ زمان وأيّ مكان من قبل.."، وأن مؤلَّفه "المقدمة"، لم يترك مجالاً أو ميداناً إلا خاض فيه، من الدين والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب، فحقَّ للكتاب وصاحبه أن يكونا خالدين.
المغارة والمدينة...
يقول الكاتب الصحافي والباحث محمد بن زيان، إنّ منطقة فرندة لم تكشف بعد كل أرصدتها التاريخية التي ترجع إلى عصور قديمة؛ "فالمدينة عريقة وكانت لها أهميتها في مختلف أطوار التاريخ منذ الرومان والفينيقيين والوندال".
ثم إنّ المنطقة في حاجة أيضاً إلى أبحاث أثريّة، إذ بالقرب منها مواقع لها قيمتها التراثية كالأهرامات التي تمت تسمى "لَجْدَارْ"؛ وأيضاً في ضواحيها قامت الدولة الرستمية التي انتقلت بعد الصراع مع الفاطميين إلى ورقلة جنوب شرقي الجزائر، يقول بن زيان لـ"النهار العربي".
ويلفت إلى أنّ فرندة هي مسقط رأس المفكر الفرنسي الكبير جاك بيرك، مترجم القرآن الكريم والمعلقات الشعرية الجاهلية، وفيها مكتبته التي أهداها للمدينة.
أما عن مغارة ابن خلدون فيقول بن زيان: "هي جزء من سلسلة مغارات تنتشر في الجزائر، من مغارة سرفانتيس في العاصمة إلى مغارة بني عاد في تلمسان؛ وكلها ارتبطت في الغالب بتحصينات عسكرية أو بخلوات صوفية أو أدبية، ولكل منها خصوصياتها وميزاتها".
ملجأ ومنجى
عند دخولك المغارة ذات الرمزية التاريخية والعلمية، تجد تفصيلاً مهماً؛ مغارة رئيسية في اتصال مباشر بغرف ذات مساحات صغيرة، اتّخذ منها ابن خلدون ملجأ ومنجى، فكانت له حماية من ملوك تلمسان، المدينة التي قضى فيها حيزاً من حياته قبل أن ينفذ بجلده هرباً من كيد حكامها نحو المغارة محل الحديث.
ويقول المؤرخون إن ملوك تلمسان (600 كيلومتر غرب الجزائر)، أرسلوا ابن خلدون في مهمّة إلى بسكرة جنوب شرقي البلاد، مبتغاهم في ذلك القضاء عليه وإسكات صوته، غير أنه تفطّن للمكيدة ليلجأ في طريقه، وهو متنكر في زيّ الرّعاة، إلى مغارة مدينة فرندة.
وتطل مغارة ابن خلدون على أحدّ الممرات الرئيسية لكثير من القوافل التجارية وغيرها قديماً، ما ساعده على الاطلاع على أخبار الناس باختلافهم واختلاف حيواتهم، ومن ذلك استلهم كتاباته عن طبائع البشر ولا سيما سكان المغرب العربي وشمال أفريقيا عموماً.
"من أحفل المساكن وأرحَبها"
بعد سنوات من الإهمال، تفطّن أهل التراث في البلاد إلى أهمية هذا المكان الرمز، أهمية تاريخية وثقافية وتراثية وحتى سياحية، فقد أضحت المغارة مزاراً لكثير من السائحين الباحثين عن موطئ قدم مؤسّس علم الاجتماع، والشغوفين بسبر أغوار المكان الذي ألهم ابن خلدون وساهم في إنتاج فكري مفيد للبشرية جمعاء، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
وساهمت التحسينات التي باشرتها مديرية الثقافة في محافظة تيارت، ومن ورائها مؤسسة الديوان الجزائري لتسيير الممتلكات الثقافية المحميّة، على صمود المغارة وإبراز "مفاتنها الخلدونية" مثلما يقول الباحث في التراث والتاريخ عبد الرحمن خليفة.
وبات للمغارة من يحرسها، كما أضحت لها شواهد تُعرّف الزائرين بها وتمنحهم معلومات عنها وعن ساكنها.
الشغف بمغارة ابن خلدون تعدى الوصف، فالزيارات تكاد لا تنقطع، جماعات وفرادى، والدارسون لفكر عالم الاجتماع والمولعين به لا يتوقفون عن السياحة لهذا المكان الرمز، ويقضون الساعات وهم يتجولون بين جنبات المغارة وداخلها، مستحضرين ومتخيلين ابن خلدون وهو يدوّن بنات أفكاره في كتابه "المقدمة"، بخاصة أنها (المغارة) تعد "من أحفل المساكن وأرحبها" على حد وصف ابن خلدون ذاته.
ويؤكد أستاذ الأنتربولوجيا واللسانيات في جامعة تيارت عمار محمودي، أن الجامعات الأوروبية مهتمة كثيراً بهذه المغارة، وكثيراً ما قصدها طلابها، بخاصة أولئك المنتمين إلى قسم الاجتماعيات والعلوم الإنسانية، فضلاً عن طلاب الجامعات العربية من لبنان وسوريا ومصر وحتى من الخليج العربي.
هذا الأمر جعل المغارة أكثر من معلم تراثي، بل تعدته لتكون مركز إشعاع اجتماعي وتاريخي وسياحي أيضاً، ما دفع السلطات المحلية في محافظة تيارت، إلى توجيه اهتماماتها نحوها وجعلها أولوية في مسارات السياحة والتراث في المنطقة.
لم يمت ابن خلدون في الجزائر رغم شغفه بحواضرها من مشرقها إلى مغربها، وإلهامها إياه ليجود بأرقى كتابات السوسيولوجيا في العالم على مر التاريخ، فعاش فيها ما عاش وسافر وتنقل بين مدنها ما تنقل، وكتب وألف وتزوج إحدى نسائها من قسنطينة شرق البلاد، ليستقر به المقام بعدها في مصر عام 1384، حتى وفاته في آذار (مارس) 1406.