أُسدل الستار الثلثاء على مهمة الدبلوماسي السنغالي عبدالله باثيلي، كموفد للأمم المتحدة إلى ليبيا، وطويت مرحلة استمرت سنة ونصف السنة، عمل خلالها على حلحلة الأزمة السياسية التي بقيت تراوح مكانها منذ أكثر من عقد، لكن محاولاته لم تحقق هدفها، لتسود الأوساط الليبية حالة من الترقب انتظاراً لتعيين موفد أممي جديد، بعدما سلّم استقالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
ويُرجّح على نطاق واسع أنّ نائبة باثيلي، الدبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري، هي المرشحة الأوفر حظاً للمنصب، وإن كان يُتوقع ألّا يمرّ قرار تعيينها أيضاً من دون جدل واسع في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في ظلّ انقسام دولي حاد، وتصاعد صراع النفوذ في ليبيا.
ستيفاني خوري.
ومنذ إطاحة نظام معمر القذافي في 2011، تداول على ليبيا ثمانية موفدين أمميين، لكن خلال العامين الأخيرين تحوّل تعيين من سيتولى المنصب إلى معضلة، ما رسّخ اعتقاداً لدى الليبيين بغياب الرؤية المشتركة لدى الفاعلين الدوليين لحل الصراع. فعقب استقالة الموفد السلوفاكي السابق يان كوبيش في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، ظلّ المنصب شاغراً لما يقارب العام، وسط انقسام دولي ومحلي حاد بشأن المرشحين، قبل أن يُحسم الأمر ويُقرّر غوتيريش تعيين باثيلي في أيلول (سبتمبر) العام 2022.
ولتعيين موفد أممي، يجب أن يُمرّر مجلس الأمن الدولي القرار، ويرجح مراقبون أن تستخدم روسيا سلاح الفيتو في وجه أي شخصية قد تساهم في تقليص نفوذها في ليبيا.
وأعلن باثيلي في مؤتمر صحافي في نيويورك، الثلثاء الماضي، أنّه قدّم استقالته إلى غوتيريش، معتبراً أنّ المنظمة الأممية "لا يمكن أن تتحرّك بنجاح دعماً لعملية سياسية، في مواجهة قادة يضعون مصالحهم الشخصية فوق حاجات البلاد".
الإحاطة الأخيرة: باثيلي يفجّر غضبه
وقبلها بدقائق، كان الموفد الأممي يُقدّم إحاطته الوداعية لليبيا أمام مجلس الأمن، والتي نعى خلالها ضمنياً العملية السياسية، بعدما استنكر "أنانية" المتحكّمين في المشهد. كما دقّ ناقوس الخطر من اشتعال مواجهات مسلحة، سواءً بين الميليشيات المتصارعة في الغرب الليبي أو بين قوات الغرب والشرق.
وأشار باثيلي إلى أنّ مبادرته التي طرحها لحل القضايا الخلافية "لقيت مقاومة عنيدة وقوبلت بتوقعات غير منطقية ولامبالاة بمصالح الشعب الليبي، وقد وجدت البعثة الأممية تحدّياً متعمّداً للانخراط بشكل جدّي، وإصراراً على تأخير الانتخابات بشكل دائم". ولاحظ أنّ "الشروط المسبقة التي يضعها القادة الليبيون تقف على النقيض مما يظهرون من نيّة لإيجاد حل للنزاع"، كاشفاً عن تأجيل مؤتمر المصالحة الوطنية إلى موعد لاحق.
ولفت الموفد الأممي إلى أنّ "الانقسام في المشهد الإقليمي والعالمي، يحفّز على التعنّت في المواقف ما يؤدي إلى إدامة الوضع الراهن الذي قد يعرّض ليبيا والمنطقة لمزيد من عدم الاستقرار وانعدام الأمن". وأشار إلى "هواجس عامة لدى الشعب إزاء تضاؤل التوافق الدولي حيال ليبيا جراء تحول بلدهم إلى ساحة لعب يحتدم على أرضها التنافس بين الأطراف الإقليمية والدولية، المدفوع بمصالح جيوسياسية وسياسية واقتصادية، إضافة إلى التنافس الذي تجاوز حدود ليبيا وطاول الجوار. وزادت محاولات التحكّم بموقعها ومواردها الزاخرة من صعوبة الوصول إلى حل".
غضب اجتماعي من الوضع الاقتصادي
وتطرّق إلى الوضع الاقتصادي في ليبيا الذي "أصبح في حالة احتقان شديد"، منوّهاً إلى "تأجّج الغضب الشعبي بشكل ملحوظ"، ومحذّراً في الوقت نفسه من "البعد الاقتصادي للتحالفات المتغيّرة بين الجهات الفاعلة المؤسسية والسياسية والأمنية، الذي يمثل توجّهاً مثيراً للقلق مع تزايد احتمالية تقويض السلام والاستقرار. وقد كان هذا التوجّه بارزاً على وجه الخصوص في غرب البلاد، لا سيما في مدن مثل طرابلس ومصراتة والزاوية، فضلاً عن استمرار عسكرة الجهات المسلحة في الأقاليم الثلاثة، والمناورات العسكرية التي تقوم بها القوات المسلحة الليبية بالقرب من خط وقف إطلاق النار شرق سرت، والتي تشكّل خطراً على اتفاق وقف إطلاق النار".
وقال باثيلي: "إنّ أي تصعيد للتوترات داخل ليبيا من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار، ليس فقط في تشاد والنيجر والسودان، إنما في كل أنحاء منطقة الساحل بشكل أوسع"، موضحاً أنّ "حالة الانسداد السياسي وغياب الاستقرار في دول الجوار جنوب ليبيا والتي يتحدّر منها العديد من المقاتلين الأجانب والمرتزقة، يعوقان التقدّم المحرز في تنفيذ انسحاب المقاتلين والقوات الأجنبية والمرتزقة".
وحضّ باثيلي في نهاية كلمته، أعضاء مجلس الأمن على أن "يتحمّلوا مسؤوليتهم قولاً وفعلاً، بشكل فردي وجماعي، من خلال إظهار الوحدة، لإلزام أصحاب الشأن الليبيين والإقليميين بدعم جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لإعادة الوحدة والشرعية للمؤسسات الليبية من خلال الحوار السياسي".
"الوضع في ليبيا نحو الأسوأ"
المحلل السياسي الليبي يحيى العبار اعتبر أنّ استقالة باثيلي هي "نتيجة طبيعية لعدم تحقيقه أي إنجاز، وفترته تُعدّ إضاعة للوقت، لا بل أنّ الوضع في ليبيا يذهب نحو الأسوأ". وأشار لـ"النهار العربي" إلى أنّ مهمّة باثيلي كانت العمل على مساعدة ودعم الوصول إلى حل وجمع الأطراف المتصارعة، لكنه في كل مرّة كان يتحدث فيها لا يطرح حلولاً وإنما مجرد شكاوى.
وأضاف: "كان ثمة عدد من المراحل مرّت فيها العملية السياسية الليبية، وكان يمكن البناء عليها، لكن الرجل لم يفعل ذلك، على عكس الموفدة السابقة الأميركية ستيفاني وليامز التي حققت تفاهمات بين الأطراف الليبية، ونجحت في الوصول إلى تحديد موعد لإجراء انتخابات في نهاية العام 2021، قبل أن تنهار العملية بفعل ما وصف في حينه بالقوة القاهرة".
وتابع العبار: "الأطراف الليبية التي تتمسك بالاستمرار في السلطة، تتحمّل مسؤولية ما وصلت إليه البلاد، لكن يجب ألا نغفل التدخّلات الدولية في الملف وصراع النفوذ الدولي الذي يؤثر سلباً في الوصول إلى تفاهمات".
ويتفق أستاذ العلوم السياسية الدكتور أحمد العبود مع العبار، في كون استقالة باثيلي كانت متوقعة، خصوصاً بعد تعيين الأميركية خوري نائبة له في آذار (مارس) الماضي، مرجحاً أنّ مسألة الاستقالة "تمّ إعدادها وإخراجها دولياً تمهيداً لإعادة ترتيب المشهد الليبي وفقاً لرؤية جديدة".
ولاحظ العبود الذي التقى باثيلي مرات عدة منذ توليه المسؤولية، أنّ الأخير "عانى من شلل خلال الشهور الاخيرة نتيجة للضغوط الدولية والمعارضة المحلية". وأضاف لـ"النهار العربي": "منذ إسقاط نظام القذافي والمجتمع الدولي منقسم بشأن ترتيبات ما بعده، وحتى الآن... مجلس الأمن يعاني الشلل وعاجز عن إيجاد أي حل للأزمات المشتعلة في المنطقة".
تداعيات الانقسام الدولي
وبالمثل أكّد المحلل السياسي الليبي أحمد التهامي أنّه "طالما استمر الانقسام الدولي ستفشل مهمّة أي موفد أممي مقبل في ظل تعقيدات الملف الليبي وتشابكه مع صراعات محلية ودولية".
وأضاف لـ"النهار العربي": "باثيلي تسلّم المهمّة وهو يعلم حالة الانقسام والتعنت بين الأطراف الليبية ورفضها تقديم تنازلات، ومن المستغرب أنّه يودع مهمّته بالشكوى أمام مجلس الأمن من المعضلات والتشابكات المعروفه للجميع من قبل تعيينه... من المفترض أنّ الوسيط الدولي يجمع طلبات الأطراف المتصارعة وشروطها وينسجها في مبادرة تُلبّي بعض تلك المطالب مجتمعة حتى يتحقق التوافق، وفي مثل الحالة الليبية يجب أيضاً أن تلبّي المبادرة رغبات الدول الإقليمية المتداخلة في الملف، بحيث يحقق الجميع المكاسب".