سلطت وفاة الناشط السياسي سراج دغمان (35 عاماً) في أحد المقار الأمنية في شرق ليبيا، الضوء مجدداً على الوضع الحقوقي المتردي في البلاد، وأعادت إلى الواجهة مطالبات بـ"وقف الإفلات من العقاب" بعد سلسلة جرائم قتل بدوافع سياسية خلال السنوات الماضية.
وجاءت وفاة دغمان الذي كان يعمل مديراً لـ"مركز أبحاث ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية"، في مدينة بنغازي في حادث تباينت الروايات الرسمية وغير الرسمية بشأن أسبابه، متواكبة مع حملة اعتقالات واسعة طاولت مؤيدين لسيف الإسلام القذافي، في وسط ليبيا وجنوبها، وكان أبرز الموقوفين فيها رئيس فريق المصالحة الشيخ علي بوسبيحة الحسناوي، بالتزامن مع تصاعد حدة حوادث التصفية والقتل لعشرات الضحايا المدنيين في مدن الغرب الليبي.
أرقام صادمة
ورصدت "منظمة رصد الجرائم" في ليبيا، في تقريرها السنوي، 337 جريمة انتهاك كان ضحيتها 276 شخصاً، ارتكبتها مجموعات مسلحة تتبع الحكومتين في شرق ليبيا وغربها. وحذرت المنظمة المستقلة ومقرها لندن في تقرير أصدرته مطلع الشهر الجاري، من "جرائم لا يمكن إحصاؤها" ارتكبتها الجماعات المسلحة الليبية التي "تزداد توحشاً على الجميع".
ويسلط تقرير المنظمة الضوء على تفاصيل الحالات التي وثقتها المنظمة منذ كانون الثاني (يناير) وحتى كانون الأول (ديسمبر) من عام 2023، مشيرة إلى مقتل 20 مدنياً خلال عمليات عسكرية دارت داخل مناطق آهلة بالسكان، و13 شخصاً راحوا ضحيةً للقتل خارج نطاق القانون، فيما عُثر على 12 رفات بشرية مدفونة في مقابر جماعية، وفقد 148 مهاجراً حياتهم أو تعرضوا للاستهداف بالخطف والاعتقال التعسفي، ناهيك عن وقوع 90 شخصاً ضحية للإخفاء القسري، لا يزال منهم 50 معتقلاً رهن الاحتجاز. ووثقت المنظمة 4 حالات لإناث تم اعتقالهن وإهانتهن واستهدافهن لكونهن نساءً قصداً.
"واقع وحشي وإفلات من العقاب"
وعلى ضخامة الإحصاءات الصادمة، إلا أن المنظمة لفتت في تقريرها إلى أنها "لا تشكل سوى جزء بسيط من واقع وحشي لم نتمكن في ظله من توثيق حالات عديدة، في سياق يتّسم بالإفلات الصريح من العقاب واستفحال الجرائم والانتهاكات الممنهجة التي تسعى السلطات والجماعات المسلحة في ليبيا إلى التعتيم عليها من خلال تقييد المجتمع المدني واستخدام كل سبل العنف المفرط والترهيب"، مشددة على "الحاجة الملحة والطارئة إلى تفعيل شتى سبل المحاسبة لإنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب من خلال دعم استقلالية القضاء الليبي والمجتمع المدني عن الحكومة وتوحيد الواجهة السياسية والبدء بصورة عاجلة ببرامج المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية".
ويتفق تقرير المنظمة الليبية مع ما نبهت إليه منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقريرها السنوي الذي أصدرته مطلع العام، كون حقوق الإنسان في ليبيا "مرت بعام مضطرب آخر، إذ قمعت السلطتان المتنافستان في شرق البلاد وغربها المنظمات غير الحكومية، واستمرت الجماعات المسلحة والميليشيات بارتكاب انتهاكات ضد الليبيين والمهاجرين بلا محاسبة".
آلاف المحتجزين بلا محاكمات
وكشفت "هيومن رايتس" عن "احتجاز وزارة العدل آلاف الأشخاص لفترات طويلة من دون محاكمة، في سجون تديرها السلطات اسمياً فقط لكن تسيطر عليها فعلياً الميليشيات التي أخضعت المعتقلين لظروف غير إنسانية، منها الاكتظاظ الشديد، وسوء المعاملة، والتعذيب". كما لفتت إلى معاناة المهاجرين وطالبي اللجوء من ظروف غير إنسانية، والتعذيب، والعمل القسري، والاعتداء الجنسي أثناء الاحتجاز التعسفي إلى ما لا نهاية في مرافق وزارتَي الداخلية الشرقية والغربية أو في مرافق يسيطر عليها المهربون والمتاجرون بالبشر.
وحضت المديرة المساعدة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "هيومن رايتس" حنان صلاح السلطات الليبية على "ضمان وجود مجتمع مدني قوي وحر وحيوي، يمكنه العمل من دون قيود غير معقولة وبلا خوف من المضايقات والاعتداءات، لكننا نرى نقيض ذلك يحدث. ينبغي للسلطات تعديل إجراءاتها وقوانينها للسماح لليبيين بالتمتع بحريتهم في تكوين الجمعيات".
وذكّر تقرير المنظمة بقرار حكومة الوحدة الوطنية ومقرها طرابلس، في آذار (مارس) 2023، حظر المنظمات المدنية غير الحكومية التي لم تلتزم تعليمات التسجيل والإدارة والعمليات الشديدة التعقيد، ما ينتهك الحق في تكوين الجمعيات ويجمّد العمل المدني بشكل كبير. كما بدأت السلطات المنافسة في الشرق في شباط (فبراير) تطبيق قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية الذي وصفه خبراء الأمم المتحدة بأنه يتعارض مع حقوق حرية التعبير، والخصوصية، وتكوين الجمعيات.
وكان الموفد الأممي المستقيل عبد الله باثيلي قد سلط الضوء مرات عدة على الانتهاكات الحقوقية في ليبيا، وكان آخرها ضمن إحاطته الوداعية أمام مجلس الأمن منتصف الشهر الجاري، قائلاً: "يعتريني بالغ القلق إزاء تزايد عمليات الاختطاف والاختفاء القسري والاعتقالات التعسفية في ليبيا التي ترتكبها قوات الأمن في ظروف يسودها الإفلات من العقاب في المناطق الشرقية والجنوبية والغربية على حد سواء، الأمر الذي يقوض الحريات الأساسية ويبث الخوف في أوساط المواطنين"، مطالباً السلطات الليبية بـ"إصلاحات تشريعية لحماية الفضاء المدني كأمر بالغ الأهمية، ومواصلة دعم المبادرة التي يقودها المقرر الخاص المعني بحرية التجمع وتكوين الجمعيات لدعم التزامات حقوق الإنسان".
"شيطنة المجتمع المدني"
الناطق باسم ائتلاف منظمات حقوق الإنسان في ليبيا حسن كدنو اشتكى من "شيطنة المجتمع المدني في ليبيا والتحريض عليه، ومن ثم تصاعد عمليات استهداف نشطائه، خصوصاً بعد عام 2021"، عازياً ذلك إلى "سعي السلطات الليبية المستميت للتغطية والتكتم على الانتهاكات والجرائم التي تُرتكب على نطاق واسع في ليبيا... إذ إن منظمات المجتمع المدني تعمل على توثيق تلك الانتهاكات وفضحها، وهي حلقة الوصل بين الضحايا والمنظمات الدولية والسلطات العقابية".
ولفت كادنو في حديث لـ"النهار العربي" إلى أن "حتى أعضاء السلطات القضائية في ليبيا يتعرضون لكثير من الانتهاكات والاستهداف، ناهيك بتجاهل المجموعات المسلحة تنفيذ قراراتهم بشأن إطلاق سراح محتجزين أو فتح تحقيق بشأن جرائم وقعت، وفي كثير من الأحيان يتم منع الضحايا وذويهم من الوصول إلى القضاء للتحقيق في قضاياهم والبتّ فيها... ثمة عملية ممنهجة لعرقة الوصول إلى العدالة في ليبيا".
وانتقد كدنو "تراجع اهتمام البعثة الأممية في ليبيا بأوضاع المنظمات غير الرسمية لمصلحة أولوية الوضع السياسي ومحاولة رأب الانقسام بين الفرقاء، رغم توقيع ليبيا على اتفاقات حقوق الإنسان الدولية، مع الاكتفاء بدعوة السلطات الليبية إلى معالجة إشكاليات حقوق الإنسان في البلاد"، مضيفاً أن "السلطات الليبية لا تلتزم الاتفاقات الدولية، بل إنها وضعت العراقيل أمام بعثات تقصي الحقائق الدولية ولم تتعاون معها لكشف الانتهاكات التي وقعت خلال العقد الماضي، كما أنها لا تتعاطى بفاعلية مع توصيات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية وتسعى طوال الوقت لخنقهم والتضييق على ناشطيهم"، مشدداً على ضرورة تكثيف الضغط على السلطات الليبية للحد من الانتهاكات التي وصفها بـ"المروعة".