بدأت معالم خريطة الانتخابات الرئاسية الجزائرية، المقرّرة في 7 أيلول (سبتمبر) 2024، ترتسم سياسياً في البلاد. ولعلّ اللافت فيها توجّه حزبين من التيار الديموقراطي نحو المشاركة بعد سنوات من المقاطعة، على غرار حزب العمال اليساري المعارض، بقيادة لويزة حنون، أما الآخر فيمثله حزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي (تقدّمي معارض)، وتقوده القاضية السابقة زبيدة عسول.
ويتضح من خلال المسوغات التي ساقتها الأحزاب الديموقراطية لتبرير خيار مشاركتها، أنّها أجمعت على أنّ الانتخابات الرئاسية المقبلة تشكّل فرصة للتيار الديموقراطي لفرض وجوده وعودته من جديد، فعسّول، استبقت الانتقادات التي قد تُوجّه لها من طرف معارضين يرون في قرار مشاركتها تزكية لتوجّهات السلطة ومساراتها بالقول: "السلطة لها مؤيّدوها، ولو كنت أريد تزكيتها، لاخترت الطريقة السهلة وتفاوضت معها".
وتستند نظرة عسول على أنّ "الانتخابات الرئاسية 2024 تُعتبر فرصة لإمكان القيام بفعل سياسي ناجع، يسمح للملايين الذين خرجوا في الحراك الشعبي الذي اندلع في 22 شباط (فبراير) 2019 في معظم المدن الجزائرية، للتعبير عن اختيار مرشح رئاسي يستجيب لمطالب الحراك".
ويكتسي موعد 7 أيلول بالنسبة للأمينة العامة لحزب العمال، التي سبق لها وأن خاضت ثلاثة استحقاقات رئاسية متعاقبة: 2007، 2009، 2014، وقاطعت الانتخابات الرئاسية لعام 2019 وكل المسار الانتخابي الذي أعقبها، أهمية كبيرة على "صعيد تقوية المناعة الداخلية للجزائر والتصدّي للتدخّلات الأجنبية".
وحتى الآن، أعلنت ثلاث شخصيات سياسية الترشح للانتخابات الرئاسية الجزائرية المقرّرة، وهي إلى حنون وعسول، المساعد السابق لوزير الخارجية ورئيس حزب التحالف الجمهوري بلقاسم ساحلي، الذي يستفيد حالياً من مساندة سبعة أحزاب حديثة النشأة.
قارب للنجاة
وفي انتظار إفصاح ما تبقّى من هذا التيار عن موقفه من الانتخابات، تدفع هذه التطورات للوقوف عند مجموعة من التساؤلات والحقائق بشأن أسباب هذا التغيير المفاجئ في المواقف. ومعلوم أنّ قطاعاً عريضاً من هذا التيار قاطع الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2019 وكل ما أعقبها، ورفض التعاطي مع السلطة وسياستها.
ويجمع مراقبون للشأن السياسي في البلاد، على أنّ جزءاً من هذا التيار ينظر للانتخابات الرئاسية على أنّها قارب للنجاة من التشتت والاضمحلال رغم الجهود المبذولة لتوحيد الصف، وهنا يمكن الإشارة إلى "البديل الديموقراطي" المعارض الذي أعلن عن ميلاده قبل الانتخابات الرئاسية التي جرت في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2019، ويضمّ أحزاباً سياسية معروفة بتوجّهها المعارض، كالتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، والحزب الاشتراكي للعمال وحزب العمال والحركة الديموقراطية والاجتماعية.
وفي هذا الشأن يقول المحلل السياسي أحسن خلاص لـ"النهار العربي" إنّ "اختيار المشاركة لدى بعض أحزاب التيار الديموقراطي نابع من شعورها بخطر الزوال إذا لم تدخل المعترك الانتخابي، بالنظر إلى أنّ الساحة السياسية لم تعد تحتمل الفراغ".
ونبّه إلى عامل آخر وهو الاهتمام المتزايد للسلطة بالمجتمع المدني الذي أصبح يكتسي أهمية كبيرة في المنظومة السياسية الديموقراطية، ويقول إنّه "وأمام اهتمام السلطة بالمجتمع المدني على حساب الأحزاب، شعرت هذه الأخيرة بضرورة اغتنام فرصة الاستحقاق الرئاسي للعودة وملء الفراغات التي تركتها بسبب المقاطعة سابقاً".
فرصة جديدة للتموضع
هذه المخاوف سبق وأن عبّر عنها قادة أحزاب سياسية من بينهم رئيس حزب "جيل جديد" (حزب تقدمي) جيلالي سفيان، الذي أثار ملف "انهيار العلاقة بين الطبقة السياسية والسلطة مع الشعب، واستقواء المجتمع المدني وتضييق الحصار على التشكيلات السياسية".
وهو الشعور نفسه الذي انتاب حركة مجتمع السلم الجزائرية (أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد)، إذ أظهرت رفضها القاطع "لمحاولة تشجيع منظمات المجتمع المدني التي تتكلم باسم الدولة مع اقتراب الانتخابات"، و"هو ما يفرز فقاعات من الزبائنية والسلوكيات الطفيلية والانتهازية التي تضرّ بالعملية السياسية والمنفرة من الانتخابات".
ويقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة بسكرة البروفسور نور الصباح عكنوش، في حديث لـ"النهار العربي"، إنّ "الواقع السياسي يتجه نحو تغيير في بنيته وبنية التيارات الإيديولوجية المختلفة، من أجل إنتاج خريطة جديدة وفق الحقائق الداخلية والمستجدات الدولية، بعد مرحلة شك وقلق انتابت الأحزاب في عملها ونخبتها، ما أثر سلباً على الحياة السياسية".
"تيارات مناسباتية"؟
ومن هنا تنظر بعض الأحزاب السياسية إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة على أنّها "فرصة جديدة للتموضع في المرحلة المقبلة، وفق مصالح وأهداف كل تيار، رغم أنّه في الحقيقة تبقى هذه التيارات ذات طابع مناسباتي من دون عمق شعبي حقيقي وبرنامج عمل طويل المدى. ولهذا نجدها تتعامل براغماتياً مع الظاهرة الانتخابية ليس للوصول إلى السلطة بل للبقاء فيها أو التقرّب منها في إطار حسابات معينة".
وتبقى المشاركة السياسية في نظر الأستاذ والباحث بقسم العلوم السياسية والإعلام في جامعة بسكرة جدو فؤاد "هي الأساس في عملية التغيير والبناء الديموقراطي، من خلال تبني برامج سياسية ورؤية حقيقية من طرف الأحزاب السياسية وتحييد المجتمع المدني عن السياسة وإبقائه في مجاله وتنظيم المعارضة وانفتاح السلطة وتفعيل القضاء، وبهذا نكون قد خطونا خطوة جيدة نحو المستقبل".