دخل الشارع الليبي طرفاً في معادلة الصراع السياسي وتداعياته على خلفية تردي الوضع الاقتصادي والمستوى المعيشي، وبرزت خلال الأيام الآخيرة حملات لمقاطعة سلع غذائية، في ظل ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم وتراجع القدرة الشرائية، ما أثار تساؤلات عن جدوى التحرك وانعكاسه على حركة سوق يكابد تفشي أمراض الفساد والاحتكار والتهريب، في بلد عصف الانقسام السياسي بمؤسساته وأجهزته الرقابية.
بضائع الخطوة الأولى
الحملة التي انطلقت في العاصمة طرابلس، وتمددت إلى مدن شرق ليبيا وجنوبها، اختار الداعون إليها البدء بسلع الدجاج والبيض والحليب ومشتقاته، كخطوة أولى للضغط على التجار باعتبارها سلعاً سريعة التلف لا يمكن تخزينها، سيتبعها توسيع نطاق الدعوة لتصل إلى الملابس التي تضاعف ثمنها خلال أقل من عام.
وتأتي الحملة وسط أزمة سيولة تضرب البلاد منذ أواخر العام الماضي وتأخر في صرف الرواتب وتراجع في قيمة العملة المحلية. وفاقم من تعقيدات المشهد الاقتصادي، احتدام الصراع بين الفرقاء حول فرض رسم ضريبي على مبيعات النقد الأجنبي بواقع 27 في المئة.
وتنفق الأسرة الليبية نحو 45 في المئة من دخلها الشهري على شراء المواد الغذائية، وفق تقرير أصدرته العام الماضي مصلحة الإحصاء والتعداد السكاني، فيما كشفت بيانات لمصرف ليبيا المركزي انخفاض معدلات أسعار المستهلكين إلى 2.4 في المئة خلال العام نفسه.
حملة شعبية غير مسيّسة
أنور التومي، وهو ناشط مدني في العاصمة طرابلس، أشاد بحملة المقاطعة حتى وإن لم تؤت ثمارها سريعاً في سوق تتحكم في حركته مجموعة محدودة وصفها بـ"الرؤوس الكبيرة"، موضحاً لـ"النهار العربي" أن "الحملة الشعبية غير المحسوبة على تيارات سياسية من شأنها زيادة وعي الشارع ودوره، في ظل غياب العمل الشعبي المنظم وثقافة المقاطعة في ليبيا... للأسف كلما ارتفع سعر سلعة يتهافت الناس على شرائها وبالتالي يشُح المعروض، ويستمر مؤشر ارتفاع السعر في صعوده حتى وصلنا إلى أن سعر بعض السلع يتضاعف كل شهر تقريباً... التجار يقيّمون أسعار سلعهم على أساس سعر صرف الدولار في السوق الموازية لا في السوق الرسمية".
وأوضح التومي أن "سعر كيلو الحليب وصل إلى 8 دنانير بعدما كان 4 دنانير قبل أسابيع، والدجاج إلى أكثر من 20 ديناراً للكيلو الواحد فيما كان 13 ديناراً، هذه السلع لا يمكن تخزينها، وبالتالي في حال مقاطعة شرائها سيُجبر التجار على خفض أسعارها لسرعة بيعها".
وإذ قال التومي إن "ليبيا تتصدر مؤشرات الفساد على المستوى الدولي في ظل غياب الرقابة المؤسسية والشعبية، وإن المقاطعة سلاح فعال في ظل غياب دور المؤسسات الرقابية الرسمية"، لفت إلى أن "سرعة انتشار الحملة وتمددها يحملان رسالة إلى المسؤولين لعلهم يلتفتون إلى غضب الناس".
رسالة من الشارع
رئيس مؤسسة الرقيب لحماية المستهلك وائل الصغير أكد "حق المستهلك في استخدام سلاح المقاطعة لمواجهة الارتفاع غير المبرر في أسعار السلع"، معتبراً أن "الحملة الأخيرة رسالة بتفاقم غضب الشارع على الحالة المعيشية، وغياب دور الدولة ومؤسساتها في ضبط الأسواق والرقابة عليها"، لكن الصغير الذي تعمل مؤسسته المستقلة في مجال الرقابة على حركة التجارة والأسواق، استنكر غياب دور الدولة وعدم اهتمام المسؤولين بالملف.
وأوضح الصغير لـ"النهار العربي" أنه مع "الارتفاع الكبير في أسعار اللحوم في الشهور الماضية، زاد الطلب على شراء الدجاج بكميات تفوق توافره في السوق، كان يُفترض أن يكون للحكومة دور تلعبه في توفير كميات كبيرة من السلع الأساسية التي ترتفع أسعارها جنوبياً، ما يؤدي إلى توازن في السوق ويمنع تلاعب التجار". وأضاف: "المقاطعة الشعبية قد تكون حلاً جزئياً للضغط على التجار لكنه غير كاف، خصوصاً أننا نعاني فراغاً تشريعياً لضبط حركة التجارة والرقابة على الأسواق... ليبيا لا تمتلك قانوناً لحماية المستهلك وحظر الممارسات الاحتكارية والذي لطالما طالبنا باستصداره".
ويتفق المحلل السياسي محمد امطريد مع الناشط التومي، في أن ليبيا "في حاجة إلى زيادة الوعي المجتمعي في مواجهة جشع التجار واستغلالهم للظروف التي تمر بها البلاد، للأسف المتحكمون في السوق باتوا يستهينون بالمواطن الليبي، لذلك نجدهم يرفعون الأسعار بحجة ارتفاع سعر صرف الدولار أمام العملة المحلية، لكن حين ينخفض لا تعود أسعار السلع إلى سابقتها، بل وصل بهم الحال إلى أنهم كلما وجدوا طلباً على سلعة يتم سحبها من السوق حتى يشح المعروض ويتضاعف سعرها ومن ثم يتم عرضها بالأسعار الجديدة"، داعياً إلى الاستمرار في حملات المقاطعة التي تحدث للمرة الأولى في ليبيا، في مواجهة معدلات التضخم غير المسبوقة.
وحمّل امطريد هو الآخر المسؤولين "مسؤولية الفشل في التعامل مع الأزمة الاقتصادية بل المساهمة في تفاقمها بقرارات غير مدروسة، فقرار المصرف المركزي تطبيق ضريبة على سعر الصرف انعكس مباشرة على ارتفاع أسعار السلع الغذائية".