يسود الغموض والترقب المشهد السياسي الليبي وسط سباق محموم عنوانه استماتة الفرقاء الليبيين للحفاظ على مكاسبهم، بل محاولة زيادة رقعتها، ومساعي الدبلوماسية الغربية، ولا سيما الأميركية، بحثاً عن حلول توقف تدهور الأزمة السياسية المشتعلة، وتضع البلاد على طريق تنفيذ الاستحقاقات الانتخابية المعطلة.
تحركات أميركية تزامناً مع وصول خوري
ثمة إشارات أميركية إلى الانخراط بفاعلية في البحث عن بدائل للحلول التي طرحت خلال الأعوام الماضية وثبت فشلها في إطفاء الحريق الليبي، تواكبت مع وصول نائبة الموفد الأممي المستقيل الدبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري إلى العاصمة طرابلس، فيما يبدو أن محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير سيكون لاعباً رئيسياً في المعترك السياسي خلال المرحلة المقبلة.
رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي تحدث عن "آليات" لم يُفصح عن تفاصيلها، لكسر الجمود الحالي في العملية السياسية، ضمن محادثات أجراها الاثنين الماضي، مع الموفد الأميركي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، فيما أوضح الأخير أن الاجتماع ناقش "السبل التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها مساعدة الليبيين في حماية سيادتهم في سياق الاضطرابات الإقليمية"، في إشارة متكررة إلى رفع مستوى الحضور العسكري الأميركي في مواجهة النفوذ الروسي وتوسعه في المنطقة.
وأضاف أن اللقاء ناقش كذلك "استعادة العزيمة للعملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، وتمكين الشعب الليبي من اختيار قادته".
وكان نورلاند قد زار على رأس وفد دبلوماسي أميركي عدداً من مدن الغرب الليبي، على رأسها مصراتة، والتقى مجلس حكماء وأعيان المدينة وأعضاء المجلس البلدي وقيادات شبابية، فيما كان لافتاً عدم اجتماعه مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة على غير عادته.
وكان الموفد الأميركي قد اجتمع قبل أسبوع مع محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير الذي كان يزور على رأس وفد مالي ليبي الولايات المتحدة، وقبل أن ينتقل منها إلى تركيا حيث عقد اجتماعاً مع رئيسها رجب طيب أردوغان.
وعُدّت زيارة الكبير لواشنطن وأنقرة محاولة لتسويق نفسه رئيساً جديداً لحكومة موحدة في ليبيا تبحث عنها أطراف محلية وقوى غربية وإقليمية فاعلة، مستغلاً تقاربه الأخير مع السلطة في شرق ليبيا، ونفوذاً راكمه طوال سنوات مع القوى الفاعلة على الأرض في غرب البلاد. وعزز تلك الفرضية أنها تواكبت مع إعلان مجلس النواب الليبي بدء تلقي طلبات مرشحين لشغل المنصب، من دون أن يوضح شروط الترشح أو المدة الممنوحة لقبول طلبات المرشحين، وكذلك آلية الاختيار بين المتنافسين، وضمانات تسلم من سيقع عليه الاختيار سلطاته، خصوصاً في العاصمة التي يسيطر عليها الدبيبة.
وما زاد من غموض الأمر أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح كشف عن اتصالات مع المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية المفترضة للسلطة التشريعية)، "للاتفاق على آلية تشكيل الحكومة"، ما يعني أن ملف تشكيل حكومة موحدة لم يحظ بتوافق بعد. وهو ما أكده لـ"النهار العربي" مصدر في المجلس الأعلى للدولة.
وأشار صالح إلى "اتفاق من حيث المبدأ مع الأعلى الدولة على أن يُزكى المرشح لرئاسة الحكومة بالحصول على أصوات 20 عضواً من مجلس الدولة وعشرة من مجلس النواب، على أن يختار الأخير المرشح بناءً على برنامجه".
أولوية الانتخابات
لكنّ قيادياً في المجلس الأعلى للدولة أوضح لـ"النهار العربي" أن اللقاءين اللذين جمعا صالح ورئيس الأعلى للدولة محمد تكالة في القاهرة "تطرقا بالفعل إلى ملف توحيد السلطة التنفيذية، لكن أولويتنا تتركز على التوافق أولاً على القوانين المنظمة للاستحقاقين الرئاسي والتشريعي". وأشار المصدر إلى أنه تم الاتفاق على فتح القوانين التي صاغتها اللجنة القانونية المشتركة المعروفه بـ"لجنة 6+6" للنقاش مجدداً والبحث عن توافق حول المواد الخلافية، لكن مجلس النواب يحاول القفز على هذا الملف والذهاب مباشرة نحو معضلة الانقسام الحكومي وتأثيره على فرص إجراء الاستحقاقات السياسية. وتساءل: "كيف نتحدث عن حكومة موحدة تدير العملية الانتخابية، والقوانين لا تزال محل خلاف؟".
المحلل السياسي محمد محفوظ لفت إلى أن "تكالة خرج من اجتماع القاهرة الذي رعته جامعة الدول العربية (مطلع الشهر الماضي)، بمكسب الإعلان عن فتح القوانين الانتخابية للتعديل، بإقرار من رئيس مجلس النواب، وفي ظل الضغوط التي يتعرض لها الأخير من البعثة الأممية والأطراف الدولية يُرجح الذهاب نحو هذا المسار أولاً تحت مظلة الجامعة العربية، قبل الانخراط في معضلة توحيد الحكومة، لأن رفض صالح تعديل القوانين سيضعه في موقف المعرقل لاتفاق القاهرة". وأضاف: "في المقابل فإن رئيس المجلس الأعلى للدولة سيكون ملزماً أيضاً، وفقاً لاتفاق القاهرة، بالانخراط في ملف تشكيل حكومة موحدة عقب تعديل القوانين الانتخابية، رغماً عن تقاربه مع الدبيبة".
مخاوف من "صفقة جديدة"
لكن محفوظ شدد على أنه إذا مضى الطرفان في هذا المسار "فلا بد من وضع ضمانات تشريعية حتى لا يتحول الأمر إلى صفقة جديدة لتقاسم السلطة، ويتكرر مشهد منح الثقة للدبيبة لرئاسة حكومة تُشرف على الانتخابات قبل أن تتعطل في نهاية عام 2021 ويستمر الجميع في مناصبهم حتى اليوم"، مشيراً لـ"النهار العربي" إلى أنه "خلال الأسابيع الأخيرة اشتعلت بورصة الترشيحات لرئاسة الحكومة الجديدة، وهؤلاء المرشحون المفترضون يتحركون لتشكيل تحالفات وينفقون الملايين ويجيشون وسائل التواصل الاجتماعي، فهل يعقل أن مثل هؤلاء الأشخاص سيعملون على إجراء انتخابات ويغادرون المنصب خلال ستة أشهر وفقاً لما يتم التعهد به؟".
ولا يعول محفوظ كثيراً على التحركات الدولية الأخيرة في حلحلة المشهد الليبي، مشدداً على أنه "ما لم يكن هناك ضغط دولي واضح لقبول الأطراف المحلية بتسوية سياسية شاملة فسيظل الانسداد السياسي يراوح مكانه".
ورأى أن واشنطن "دفعت باتجاة تولي خوري منصب نائبة رئيس البعثة الأممية قبل استقالة عبد الله باثيلي حتى تتولى البعثة بالإنابة، لأن مجلس الأمن لن يتوافق على موفد أممي جديد، وفي ظل هذا يُرجح أن تضغط باتجاه المسار الذي ستتبناه البعثة الأممية في المرحلة المقبلة، وبالتالي إذا كانت الولايات المتحدة جادة في دعم المسار السياسي الجديد، فإن عليها إما تجاوز المؤسسات المتصارعة أو إجبار الفرقاء على التوافق".
أي خطة ستعتمدها ستيفاني خوري؟
أما الباحث السياسي عيسى عبد القيوم فأكد أن "المجتمع الدولي لا يزال يبحث عن مخرج للأزمة، والساحة الليبية تترقب تبلور رؤية خوري، وما إن كانت ستأتي بأجندة تفرضها، أو تُشكل لجنة موسعة للحوار السياسي على غرار التي شكلتها الأميركية ستيفاني وليامز، يوكل إليها تشكيل سلطة انتقالية جديدة تُعتمد بقرار من مجلس الأمن، أو تمضي في طريق الموفد المستقيل باثيلي بالدعوة إلى طاولة تجمع أطراف النزاع، لكن أتوقع ألا تفرض مبادرة بعينها وأن تذهب إلى آلية ما للحوار".
ولاحظ عبد القيوم أن الأطراف المتصارعة "ترفع السقف استباقاً لانخراط خوري في العملية السياسية وتفاصيلها"، وفي هذا الإطار تأتي اجتماعات محافظ المصرف المركزي الأخيرة، والتي وصفها بـ"السياسية بامتياز"، لافتاً لـ"النهار العربي" إلى "انقسامات عنيفة" في معسكر الغرب الليبي، وإلى أن الكبير "بات أحد أطراف النزاع السياسي في المشهد الليبي ويطمح إلى دور أكبر مستنداً إلى نفوذه في الداخل وعلاقاته الخارجية، فيما رئيس حكومة الوحدة الوطنية يستميت للبقاء في المشهد الذي يجري الترتيب له وأن يكون أحد أطرافه". وقال: "نحن الآن أمام رقعة شطرنج وتحالفات متغيرة لأطراف فقدت شرعيتها لكنها تحارب وتعقد الصفقات للبقاء على مقاعدها"، معتبراً أن إشارة وزير الداخلية عماد الطرابلسي بحضور الدبيبة إلى أن وزارته ستؤمن المصرف المركزي، "تحمل دلالات سياسية، ورسائل إلى محافظ المركزي".