في نهار 10 أيلول (سبتمبر) الماضي خرج أبو حمزة الشوماني، أحد كبار شيوخ مدينة درنة (شرق ليبيا)، للتو من مسجد الصحابة في المدينة، بعد أدائه صلاة الظهر كعادته. كان الطقس يشي بإمكانية سقوط أمطار غزيرة، لكنه لم يتوقع أنها ستكون المرة الأخيرة التي يدخل فيها المسجد، بعدما شهد ساحل ليبيا الشرقي عموماً ودرنة خصوصاً كميات هائلة من المياه تحولت إلي فيضانات دمرت غالبية مباني المدينة.
بقي المسجد صامداً متمسكاً بالمكان الذي بُني فيه قبل نصف قرن، كجزء من مقبرة كبيرة تحتضن جثامين 70 صحابياً أبرزهم زهير بن قيس البلوي، الملقّب بأمير برقة الشجاع، ومساعداه أبو منصور الفارسي وعبد الله بن بر القيسي، وكانوا ضمن الجيش الذي نشر الإسلام في شمال أفريقيا، وقتلوا في معارك ضد الرومان في المنطقة. وتضمّ المقبرة كذلك قبور المئات من أبناء درنة ومشاهيرها، ومنهم عائلة الشوماني نفسه.
إطلاق عمليات إعادة الإعمار
وبعد سبعة أشهر من المأساة التي راح ضحيتها الآلاف، تواصل سلطات شرق ليبيا غلق المنطقة بالحواجز، لتسهيل عمليات إعمارها وإعادة تأهيل المسجد، والتي انطلقت قبل فترة. ويشير الشوماني في حديث لـ"النهار العربي" إلى أن "المقتدرين وأهل الخير يساهمون بتبرعاتهم المالية واللوجستية في تأهيل المسجد وإعادته للحياة، لكنّ القائمين على تأهيل المنطقة يحظرون على السكان الحضور أو التجوال في المكان أو حتى متابعة الأعمال الإنشائية... الحركة في المنطقة تقتصر على عمال شركات المقاولات".
يقع المسجد في ميدان الصحابة، ويمثل القلب النابض لدرنة، وهو الأكبر في المدينة التي تطل على ساحل البحر المتوسط. يتكون من طابقين فسيحين، ويحتوي على مصليات تستوعب آلاف المصلين، إلى جانب قاعة كبيرة كانت تُستخدم في مناسبات اجتماعية كعقود القران والتعازي، وقد بدأ بناؤه عام 1970 بتمويل من رجال الخير في المدينة، على الطراز الإسلامي ليكون صرحاً يميزها، واستمر العمل فيه حتى افتتاحه عام 1975. وتحول المسجد سريعاً إلى مركز ثقافي وعلمي في درنة، وقبلة يزورها الوافدون إلى المدينة، كما كان مُلتقى اجتماعياً يجمع كل أطياف المدينة.
وخلال أحداث شباط (فبراير) عام 2011، تعرضت مقبرة الصحابة لحريق نتج عن انفجار مولد كهربائي، قبل أن يسيطر عليه الدفاع المدني، ويمنع تمدده إلى مسجد الصحابة المجاور.
خشية من تغيير المعالم
كان المسجد يتزين بواجهة تنتصفها قبة، ومن طرفيها مئذنتان، إلى جانب سلسلة من القباب الصغيرة التي توزعت على أماكن متعددة من المبنى الضخم، لكن الشوماني يخشى من أن "تُغير عملية التأهيل معالمه التراثية، وخصوصاً أنها تجري بعيداً من أعين سكان درنة وشيوخها".
ويوضح أن مياه الفيضانات "أثرت في أساسات المسجد وبعض جدرانه، بالإضافة إلى عدد من القباب"، مشيراً إلى أن المسجد كان يحتوي على أعمدة اسطوانية أنيقة، ومنبر تراثي ومحراب، ويتدلى من سقفه ثريات ونجف وفوانيس، ناهيك عن ساحته الخارجية التي كانت تتزين بالأشجار والنخيل، كل هذا راح ضحية فيضانات إعصار "دانيال". وبلا شك فإن التجهيزات الحديثة، والتي على الأغلب ستأتي من الخارج، لن تُراعي البُعد التاريخي والتراثي للمسجد والمدينة، ولن تكون بجمال القديمة وأصالتها.
ويقول الشوماني: "عودة الحياة إلى درنة مرتبطة بعودة مسجد الصحابة والمقابر، نظراً للارتباط الشديد من سكان المدينة وخصوصاً كبار السن بأضرحة الصحابة والمسجد، حتى أنهم يلقبون درنة بمدينة الصحابة"، لافتاً إلى مقاومة الأهالي بجهودهم الذاتية، هجمات تنظيم "داعش" الوحشية خلال سنوات سيطرته على مدن ساحل شرق ليبيا، ودفاعهم عن الأضرحة والمسجد باستماتة ومنع عناصر التنظيم من الاقتراب منها وهدمها حتى تم طردهم من المدينة.
تطمينات من المشرفين
وكانت السلطات الليبية أعلنت البدء في صيانة مسجد الصحابة وإعادة تأهيله. وأظهرت مقاطع فيديو جرافات تنقل أكواماً من الأتربة من داخل المسجد وأمامه، تمهيداً لصيانته. وسعى المهندس عبد اللطيف الحمودي، أحد المشرفين على إعمار درنة، إلى طمأنة سكانها. وفي حديث لـ"النهار العربي"، أكد "مراعاة الطراز المعماري التاريخي في كل تفاصيل المشاريع التي يتم تنفيذها، والتصميمات التي يتم الاتفاق عليها مع شركات المقاولات وحتى المواد المستخدمة في الإعمار والتأهيل"، متعهداً الحفاظ على الطابع التراثي لدرنة، التي يصفها مؤرخون بـ"خزانة التاريخ الليبي".
وأوضح الحمودي أن عملية التأهيل والصيانة "لا تشمل فقط مسجد الصحابة وإنما المنطقة بأكملها، بما فيها مقابر الصحابة التي نسعى إلى إعادة إعمارها بعدما دمرت أغلبها الفيضانات، تمهيداً لإعادة الرفات الذي نُقل"، لافتاً إلى أن "شركات المقاولات عمدت خلال الأسابيع الماضية إلى عمليات سحب المياه الجوفية في منطقة مقابر الصحابة والمسجد، وبعدها بدأت في تجفيف التربة ومعالجتها وحقن أساسات المباني المتداعية، وفي أعقاب الانتهاء من تلك العملية سنبدأ في إعادة تأهيل الجدران وصيانتها".
ولفت إلى أن "مبنى مسجد الصحابة لم يطله التدمير لكن إعادة افتتاحه لن تتم قبل الانتهاء من الأعمال الانشائية في المنطقة بأكملها، والتي تتم بشكل متزامن حتى نضمن سلامة السكان".
وكانت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" أعلنت استعدادها لترميم المواقع الأثرية المتضررة من إعصار "دانيال" وصيانتها. وأكد الحمودي أن السلطات الليبية تتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية المهتمة بالمناطق الاثرية والتراثية.