تسعى جهات تونسية منذ فترة إلى تسجيل مقدمة ابن خلدون في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وهي التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في عصرها ولا تزال إلى اليوم من أهم مراجع الباحثين في مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية.
والمقدمة هي مقدمة "كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" والذي فاقت شهرة مقدمته كل الوصف حتى أصبح البعض يعتقد أنها كتاب مستقل بذاته عن كتاب العبر المشار إليه.
ولد العلامة ابن خلدون في مدينة تونس في زمن الدولة الحفصية، ولا يزال البيت الذي ولد فيه في المدينة العتيقة لتونس قائماً إلى اليوم في حي تربة الباي، وكذا الكُتّاب الذي تعلم فيه في سنواته الأولى الكتابة والحروف وقواعد اللغة، وحفظ فيه القرآن. والتحق ابن خلدون بجامعة الزيتونة التونسية، أقدم جامعات العالم التي يتواصل فيها التدريس إلى اليوم دون انقطاع، وأنهى دراسته فيها وعمره 17 سنة فانتدبه سلاطين بني حفص، حكام تونس، إلى العمل في ديوانهم نظراً إلى نبوغه وتفوقه على أبناء جيله.
بيت أقام فيه ابن خلدون.
نتاج بيئته
ويؤكد الكاتب والباحث التونسي في علم الاجتماع هشام الحاجي، في حديث إلى "النهار العربي"، أن كثيراً من دارسي سيرة العلامة يجمعون على أنه لولا البيئة التونسية المنفتحة على العالم وعلى العلوم والمعرفة، التي ولد ونشأ وترعرع واشتد فيها عود ابن خلدون، ولولا جامعة الزيتونة التي كانت تدرس كل علوم العصر وليس فقط العلوم الفقهية، لما كان ابن خلدون الذي عرفه العالم.
ويؤكد هؤلاء، بحسب الحاجي أيضاً، أن ابن خلدون لو ولد في مكان آخر لما وجد بيئة مشجعة على العلم والمعرفة، ولما وجد جامعة تصقل استعداده المعرفي مثل جامعة الزيتونة التي تخرج فيها وجعلته جاهزاً لتقلد المناصب الكبرى وللترحال في مختلف الأصقاع لاكتشاف الشعوب، سواء في المغرب أم في المشرق العربيين وتدوين مشاهداته وتحليلها والقيام باستنتاجات وقراءات بشأنها.
ويضيف الحاجي أن ابن خلدون بحسب هؤلاء "هو ابن بيئته، وهو تجسيد لانفتاح التونسيين زمن الدولة الحفصية وقبلها وبعدها على مختلف شعوب العالم، مستفيداً من موقعها الجغرافي الفاصل بين حوضي المتوسط الشرقي والغربي والمطل على مضيق صقلية الفاصل بدوره بين قارتي أفريقيا وأوروبا. كما أن ابن خلدون هو نتاج طبيعي للمستوى العلمي الراقي لجامعة الزيتونة التونسية التي تخرج فيها علماء كثر ومشاهير وفقهاء، سواء من تونس أم من غيرها على غرار سحنون بن سعيد ابن مدينة القيروان التونسية الذي نشر المذهب المالكي في شمال أفريقيا وشاعر تونس الخضراء أبو القاسم الشابي وغيرهم".
المدرسة الخلدونية.
تثمين الأثر المعرفي
وترى الإعلامية التونسية المتخصصة في الشأن الثقافي ليلى بورقعة، في حديث إلى "النهار العربي"، أن التونسيين، بعدما أقاموا تمثالاً لابن خلدون، سفيرهم الذي حمل فكرهم وثقافتهم إلى دول الجوار وإلى بلدان المشرق العربي في شارع الحبيب بورقيبة وهو الشارع الرئيسي للعاصمة، وبعدما اهتموا وتعهدوا بيته الذي ولد ونشأ فيه وكذا كُتابه الذي درس به بالترميم، يسعون اليوم لتسجيل مقدمته في اليونسكو في قائمة التراث العالمي. ويؤكد المؤرخ التونسي عبد الستار عمامو، بحسب بورقعة، أن لقب" العلّامة" الذي ساد لدى أغلب الناس بشأن ابن خلدون ليس صيغة مبالغة لصفة العالم بل هو دلالة على مهنة ابن خلدون الذي كلفه السلطان الحفصي، حاكم تونس الحالية وشرق الجزائر والغرب الليبي قبل قدوم العثمانيين إلى المنطقة، بوضع العلامات، أي الأختام، على القوانين والوثائق الرسمية للدولة، وهي رتبة بمرتبة الوزير الذي يجب أن يكون أهلاً للثقة والأمانة.
وتضيف الإعلامية التونسية "لذلك تصر تونس على تثمين أثر ابنها الذي غادرها ليتجول بين الأمم مكتشفاً العادات والتقاليد ودارساً سلوكيات الشعوب لينتهي به المطاف في مصر حيث فارق الحياة تاركاً وراءه إرثاً أثر في الإنسانية قاطبة. ولئن عرف العالم البيت الذي ولد فيه ابن خلدون في مدينة تونس وتم الحفاظ عليه من حكام البلاد منذ أن غادر العلامة مسقط رأسه، سواء الحفصيون أم العثمانيون أم المراديون أم الحسينيون أم دولة الاستقلال الحديثة، إلا أنه لا يُعرف إلى اليوم المكان الذي دفن فيه ابن خلدون في مصر، وكل ما يعرف عنه أنه فارق الحياة في أرض الكنانة".
ونظّمت لجنة دعم تسجيل مقدمة ابن خلدون لدى اليونسكو جولة في قلب المدينة العتيقة في تونس العاصمة بقيادة المؤرخ عبد الستار عمامو اقتفاء لأثر العلامة ابن خلدون في عدد من معالم المدينة على غرار المنزل الذي ولد فيه وسكنه قبل ترحاله، و"الكُتّاب" الذي درس فيه، والمدرسة الخلدونية التي تحمل اسمه. وكانت مناسبة للفت الانتباه إلى الجهود التي تقوم بها هذه اللجنة لتسجيل المقدمة والتي تحظى بدعم عدد من الدول، سواء تلك التي أقام فيها ابن خلدون فترات من حياته وحاولت نسبته إلى نفسها، أم التي اهتمت بفكره وما قدمه للإنسانية وهي عديدة في هذا العالم.