في خضم حراك شباط (فبراير) 2011، وتحوله إلى تمرد مسلح، لم تتخيل غالبية الليبيين أن السلاح الذي رُفع في وجه الزعيم معمر القذافي وقواته سيرتد مع مرور الأيام على المدنيين، لكن مع مضي السنوات عاشت ليبيا خلالها فترات عصيبة ترسخ اعتقاد بأن السلاح هو كلمة السر في ظل غياب أي جهد حقيقي، طيلة أكثر من عقد، لجمعه وإنهاء حالة الفوضى.
فبحيازة السلاح تستطيع السيطرة على رقعة من الأرض، وإذا كثفت من تكنيزه ورفع مستواه التدميري يمكنك توسيع أرضك وطرد خصومك ولو كانوا على سدة الحكم، ومن ثم تمتلك السلطة على تلك المساحة وتجبي من ورائها المال. وبالسلاح والمال يُتاح لك توسيع سلطاتك ونفوذك عند دوائر صنع القرار السياسي والمالي. إذاً هي دائرة لا تنتهي تختلط فيها ثلاثية: السلاح والسلطة والمال، والتي ستظل ليبيا، أكبر خزان نفطي في أفريقيا، ترزح تحت ظلالها لأجل غير مسمى بعدما تخلصت من القذافي ودكتاتورية زمنه.
هناك اعتقاد سائد بأن معضلة الفلتان الأمني في غرب ليبيا خصوصاً، تقتصر على حيازة مجموعات شبه عسكرية غير منضبطة السلاح، لكن بالنظر إلى خريطة توزيع النفوذ في مدن الغرب الليبي ستجد أن أزمة فلتان السلاح وحيازته تطال أيضاً قبائل وأقليات عرقية تمتلك أجنحة عسكرية جرارة، ولعل خير دليل على ذلك الاشتباكات التي وقعت على بعد خطوات من الحدود التونسية بين الأمازيغ وسلطة الدولة ممثلة بوزارة الداخلية وتوقف على إثرها معبر رأس أجدير الحدودي عن العمل رغم أهميته الاستراتيجية، وبعدها بأسابيع قليلة الصدامات التي شهدتها مدينة الجميل وقبلها مدينة غريان بين مجموعات قبلية جهوية وميليشيات شبه رسمية محسوبة على سلطة الدولة وأجهزتها الرسمية حاولت الدخول إلى المدينتين. وعلى هذا النحو ستجد أن كل مدن الغرب الليبي تحتوي على ميليشيات تتوزع بين مجموعات قبلية وأخرى أيديولوجية أصولية وثالثة وربما رابعة لتجمعات من العصابات ومرتكبي الجرائم ومهربي المخدرات والبشر، وكل هؤلاء جرى بينهم اتفاق ضمني على تكريس غياب الدولة ومؤسساتها، فيما كثيراً ما تنشب بينهم خلافات، سواء أكانت أيدولوجية أم على مناطق النفوذ والمال تتطور أحياناً إلى صدامات مسلحة، وفي أحيان أخرى يتدخل زعماء القبائل والأعيان للملمة تلك الخلافات.
أما سلطة الغرب الليبي شكلاً فلا تُسيطر واقعياً إلا على العاصمة، فيما يبدو الخلط واضحاً بين كتائب محسوبة على الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية ومجموعات مسلحة ولائية لها امتدادات محدودة في المدن المحيطة وتحصل على رواتب من الموازنة العامة، بل سعت الحكومات المتعاقبة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة إلى شرعنتها بقرارات رسمية والدفع بزعمائها إلى صدارة المشهد السياسي والاقتصادي والرياضي، بل إلى طاولات المفاوضات الدولية أملاً في ضمان السيطرة عليها، لكن هذا لم يحدث.
خريطة ميليشيات الغرب الليبي بالغة التعقيد، لكن يُعتقد على نطاق واسع أن بداية التأسيس كانت مع عودة ظهور "الجماعة الليبية المقاتلة"، التي بايعت تنظم "القاعدة"، في خضم معارك 2011، معتمدة على خبرة قادتها بعد مشاركتهم في حروب أفغانستان، وإلى جوارهم كان يُقاتل مئات الشباب المنتمين إلى "إخوان" ليبيا. وبالإضافة إلى هؤلاء ظهر ما أطلق عليه "كتائب الثوار" وأغلبهم من المنتمين إلى التيار السلفي الأصولي، ومع تصاعد وتيرة القتال وتنقله بين المدن ظهرت كتائب ذات تركيبات جهوية، سواء أكانت تنحدر من مدينة أو قبيلة واحدة، وكل هؤلاء شكلوا اللبنة الأولى لمعضلة الميليشيات، حتى وصلت الحال الآن إلى وجود أكثر من 300 ميليشيا مسلحة، وفقاً لتقديرات غير رسمية، تمكنت بشتى أنواعها وتنوُّع انتماءاتها خلال نحو عقد، من التغلغل وبسط نفوذها والسيطرة على غرب ليبيا، بل امتلاك بعضها سجوناً سرية سيئة السمعة تعتقل فيها معارضيها.
قد يعتقد البعض أن طرابلس تحوي أكبر عدد من الميليشيات وأكثرها عتاداً، لكن مراقبين ليبيين يؤكدون أن مدينة مصراتة، ثالث أكبر مدن ليبيا بعد العاصمة وبنغازي (عاصمة شرق ليبيا)، تأتي في الصدارة إذ ينشط فيها ما يقرب من 20 ألف مقاتل في حوزتهم آلاف العربات المسلحة ومئات الدبابات وعشرات الطائرات العسكرية، إضافة إلى مخازن للأسلحة. وتمتد منطقة نفوذ هذه الميليشيات من مدينة السدادة شرق مصراتة بحوالي 80 كلم إلى مدخل العاصمة الجنوبي الشرقي.
وتحتوي المدينة الساحلية الاستراتيجية على خليط من الكيانات العسكرية، بعضها يوالي سلطة العاصمة ويتبعها على رأس هؤلاء "قوة العمليات المشتركة"، وكذلك "لواء الحلبوص" إحدى أكبر ميليشيات مصراتة، والذي ينتمي إليه رئيس أركان قوات الغرب محمد الحداد، فيما تناصب غالبية المجموعات العسكرية العداء لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وعلى رأس هؤلاء ميليشيات "حطين"، ثالث أكبر كتائب المدينة، وكان فتحي باشاغا أحد قادتها قبل أن يتولى منصب وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، وبعدها كلفه مجلس النواب رئاسة حكومة موازية.
وهناك أيضاً "كتيبة 777" التي يقودها هيثم التاجوري، و"كتيبة 166" بزعامة محمد الحصان، والمتورط في جرائم تهريب وتعذيب، بحسب منظمات غير رسمية. و"كتيبة المرسي" وكان باشاغا أحد مؤسسيها. بالإضافة إلى ميليشيات "لواء المحجوب"، و"المرابطون"، و"القوة الثالثة"، و"طاجين"، وأغلب عناصر هؤلاء من التيار السلفي الراديكالي.
واختار فريق ثالث الوقوف على الحياد على رأسه ميليشيات "الصمود" التي تعد إحدى أكبر المجموعات في مصراتة وأكثرها عتاداً، ويقودها صلاح بادي، المدرج على قائمة عقوبات مجلس الأمن الدولي منذ أواخر عام 2018.
ميليشيات العاصمة
أما في العاصمة طرابلس فيمثل أواخر عام 2022 تاريخاً مفصلياً في تركيبة ميليشياتها. فبعد هجوم فاشل نفذته الميليشيات الموالية لرئيس الحكومة الموازية السابق باشاغا، للسيطرة على العاصمة وتنصيبه رئيساً لمؤسساتها، أوكل خصمه الدبيبة المسيطر على العاصمة، إلى المجموعات المسلحة الموالية له مهمة طرد خصومه وعلى رأسهم "كتيبة النواصي"، التي تتألف من نحو 1500 مسلح، يقودها مصطفى قدور، وكانت تلعب دوراً في تأمين مقار حكومية، وخصوصاً مصرف ليبيا المركزي. وهي المهمة التي أتمتها بعد شهور قليلة، ليطبق الدبيبة سيطرته على طرابلس. وقد نمت هذه القوات نمواً متزايداً، ووسعت انتشارها حتى باتت تشكل ما يشبه "الألوية العسكرية".
ويأتي على رأس أكبر ميليشيات طرابلس الآن "جهاز دعم الاستقرار" بقيادة عبد الغني الككلي الملقب بـ"غنيوة"، والذي يبلغ عدد مسلحيه نحو عشرة آلاف، مدججين بكل أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وسط معلومات عن حيازته أخيراً طائرات مسيرة "درونز" تركية الصنع.
ويسيطر الجهاز على منطقتي "أبو سليم" و"الهضبة" وأجزاء من طريق المطار، ويدير أحد أسوأ سجون طرابلس سمعة، كما يتولى تأمين مناطق مهمة وحيوية في العاصمة بينها منشآت دبلوماسية.
وبالتوازي يأتي "جهاز الردع" بقيادة عبد الرؤوف كارة، ويبلغ تعداد مقاتليه أكثر من 5 آلاف مسلح، ويسيطر الجهاز على قاعدة معيتيقة الجوية ومحيطها بما في ذلك سجن في داخله عشرات العناصر المنتمية إلى تنظيم "داعش"، بالإضافة إلى عدد من المنشآت الحكومية الحيوية على رأسها مقر المصرف المركزي، بعدما حل بدلاً من "كتيبة النواصي" المطرودة.
وتحل ميليشيات "كتيبة 444"، في المرتبة الثالثة من حيث قوتها وتضم نحو 3 آلاف مسلح، يقودهم محمود حمزة الذي تولى أخيراً رئاسة جهاز الاستخبارات العسكرية، وبات يحظى بقبول لدى قوى دولية نافذة، بعدما لعبت كتيبته خلال العام الأخير، دور "حمامة السلام" في كل صراع ينشب بين ميليشيات العاصمة، وتتمركز الكتيبة في مساحة كبيرة من معسكر التكبالي وترهونة، حتى وصلت إلى ما بعد "بني وليد".
وفي مرتبة أقل تأتي ميليشيات "البقرة" نسبة إلى قائدها بشير البقرة، وتنشط في منطقة تاجوراء في الضاحية الشرقية من طرابلس، وترتبط بعلاقات وثيقة مع تيار الإسلام السياسي. وذاع صيت هذه الجماعة السيئة السمعة، بعد سلسلة هجمات نفذتها ضد مواقع حيوية لـ"الجيش الوطني الليبي"، وإقدامها على عمليات خطف أجانب.
وهناك أيضاً ميليشيات "ثوار طرابلس" التي تتألف من نحو 1500 مسلح، تحت قيادة هيثم التاجوري، وهي تتبع اسماً لوزارة الداخلية، وتسيطر على عدد من المباني الحكومية على رأسها البريد المركزي ووزارات ومديرية أمن طرابلس. ينشط مسلحوها في منطقة صلاح الدين، وتسيطر على بعض المناطق المتفرقة في العاصمة، وتتمركز أيضاً في مقر مزرعة النعام في تاجوراء.
بالإضافة إلى ذلك، هناك ما تُسمى بـ"قوة دعم الدستور والانتخابات"، وكتيبة "فرسان جنزور" التي تتمركز غرب العاصمة، وكتيبة "رحبة الدروع" بمنطقة تاجوراء (شرق طرابلس).
وبعيداً من مدينتي طرابلس ومصراتة، يبرز اسم اللواء أسامة الجويلي والذي عُين أول وزير للدفاع بعد إطاحة القذافي، قبل أن يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية ويقيله الدبيبة في منتصف عام 2022، وبعدها بنحو عام عينه رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي قائداً لمنطقة الجبل الغربي العسكرية.
وللجويلي نفوذ ضارب على ميليشيات مدينتي الزنتان وورشفانة، وبدرجة أقل في مدينة الزاوية المتاخمة لطرابلس العاصمة، والتي شكلت ميليشياتها في الشهور الأخيرة تحالفاً أطلقت عليه اسم "البحث الجنائي"، ويضم "غرفة الثوار"، و"النصر"، و"الفار"، و"الأبح"، و"السلوقي" و"البيدجا"، بالإضافة إلى ميليشيات مدينة صبراتة بقيادة أحمد الدباشي. ويملك هذ التحالف أسلحة ثقيلة ومتوسطة، مثل قذائف الهاون التي ظهرت في اشتباكات عدة وقعت خلال العامين الأخيرين.
وأمام هذا الواقع يبقى السؤال مفتوحاً عن مدى قدرة الغرب الليبي وسكانه على البقاء رهينة للميليشيات.
مستشار المنظمة الليبية للدراسات والأمن القومي رمزي رميح حمّل مجلس الأمن مسؤولية انفلات السلاح، إذ إنه "ساهم في إسقاط الدولة الليبية ودفع البلاد نحو هذا المستنقع"، موضحاً أن "المنطقة التي تبدأ من غرب مدينة سرت (وسط ليبيا) وحتى الشريط الحدودي من تونس، وتمثل 15 في المئة من مساحة ليبيا، تتميز بكثافة سكانية عالية ويعاني أهلها ويلات الفوضى وحياتهم مهددة جراء الفلتان الأمني".
وقال لـ"النهار العربي" إن "الاتفاق الذي رعته الأمم المتحدة والموقع بين المتقاتلين في شرق ليبيا وغربها عام 2020 في مدينة جنيف، والذي ثبت وقف إطلاق النار، نص بوضوح وصراحة على أنه يجب خلال 90 يوماً حل الميليشيات ونزع سلاحها وإخراج المرتزقة. ونحن الآن قاربنا على مرور أربع سنوات على هذا الاتفاق من دون أن تظهر بارقة أمل في حل تلك الإشكالية".
وأضاف: "هناك تعهدات أطلقها المسؤولون المحليون المتعاقبون منذ عام 2012 بجمع السلاح المتفلت، لكنهم لم يمتلكوا القدرة على تنفيذ تلك الخطوة".
واقترح رميح سيناريوين لحل إشكالية الميليشيات، الأول يكمن في "العمل على أن تتوحد مجموعة من القيادات العسكرية في غرب ليبيا خلف شخصية عسكرية مشهود لها وتحظى بقبول عام، على غرار تجربة شرق ليبيا، على أن يتم إنشاء جيش منضبط تنضم إليه المجموعات المسلحة المنتشرة في كل مدن الغرب، وأن تكون لهذا الجيش قيادة عامة تضم كل المجموعات المسلحة وقيادتها"، معتبراً أنه إذا نجحت تلك الخطوة "فسيكون لدى المنطقة الغربية قيادة عسكرية موحدة مثل المنطقة الشرقية، الأمر الذي سيُيسر عملية لقاء القيادتين وسيساهم في توحيد المؤسسة العسكرية تحت كيان واحد".
أما السيناريو الآخر فيتطلب استصدار قرار ملزم من مجلس الأمن تحت الفصل السابع بحل الميليشيات، مشدداً على "الضرورة الملحة لحل تلك الإشكالية بتضافر الجهود المحلية والدولية".
أما الباحث في الشأن الأمني ناصر بوديبة فرأى أنه "في ظل تحديات الواقع الليبي منذ عام 2011، وغياب الدولة والمؤسسات، بل تحول ليبيا ساحة للصراعات الخارجية، فمن الطبيعي وقوع صدامات بين الميليشيات في كل مناطق الغرب الليبي بين حين وآخر". وقال لـ"النهار العربي": "في ظل تفشي حالة الفلتان الأمني فإن كل منطقة تسعى للحفاظ على مكاسبها وجغرافيتها ونفوذ زعمائها"، محيلاً مسؤولية ما يجري إلى "تراكم احتدام الصراع بين الفرقاء السياسيين، إذ بات من يتحكمون بالسلطة يحتمون بمن يمتلك السلاح للحفاظ على مقاعدهم، على عكس ما يجري في دول العالم التي يحكمها دستور وقانون وتخضع فيها المؤسسة العسكرية لأوامر وقرارات رأس الدولة وسلطاتها التنفيذية والتشريعية". ولفت بوديبة إلى أن "ليبيا ليس لديها أركان دولة حقيقية ولا مؤسسات، وبالتالي لا بد من التحرك المتزامن بداية من استصدار دستور ينظم عمل الدولة ويؤسس لمؤسسات سياسية ومالية وعسكرية وأمنية".
واختلف مع الرميح في جدوى التدخل الدولي لحل الإشكالية، موضحاً أن "الأزمة الليبية ليست على سلّم أولويات المجتمع الدولي، وحتى عندما تدخل بتشكيل لجنة عسكرية مشتركة (5+5)، لم تُنتج حلولاً عملية منذ تشكيلها في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، بل إنها باتت الآن في حكم المجمدة"، مشدداً على "ضرورة العمل على تأسيس دولة ومن ثم العمل على توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية".
أما الناشط الحقوقي عمر أبو سعيد فذهب إلى بُعد ثالث لا بد من وضعه في الاعتبار حين التعاطي مع أزمة الميليشيات، مشيراً إلى "ضرورة تجفيف منابع تمويل المجموعات المسلحة، ما قد يساهم في حلها ذاتياً". وأوضح لـ"النهار العربي" أنه "بغض النظر عن انعكاس الأزمة السياسية على الملف الأمني، تُعدّ مسألة التمويل إشكالية رئيسية في قضية الميليشيات وانتشارها، فهناك بعض المجموعات المسلحة يحصل عناصرها على رواتب من خزانة الدولة بعد شرعنتها، وهناك البعض الآخر يمول نفسه ذاتياً عبر التهريب وتجارة البشر".
واعتبر أن "معالجة الملف تحتاج إلى إرادة حقيقية لتجفيف منابع تمويل هذه المجموعات، الأمر الذي سيؤدي إلى انحلالها. وبالتزامن مع ذلك لا بد من تفعيل سلطة القضاء لأن عدداً كبيراً من قادة الميليشيات مطلوبون في جرائم عدة".