تفاقمت أخيراً في ليبيا آفة انتشار المخدرات التي عززها غياب الدولة والانقسام السياسي والتفلت الأمني وفقدان السيطرة على المنافذ الحدودية. وسلط تقرير أممي الضوء على مخاطر هذه الظاهرة.
ولا يمر أسبوع في ليبيا إلا وتعلن أجهزة الأمن في شرق البلاد وغربها ضبط متورطين بالإتجار بكميات هائلة من المخدرات. وتتنوع القضايا ما بين التهريب من الخارج والتصنيع والإتجار المحلي، إلا أن ما لم يُضبط يمثل أضعاف الكميات المضبوطة، وفقاً لتقارير محلية ودولية، تُحذر من أن ليبيا تشهد رواجاً كبيراً للمخدرات محلياً، بل باتت معبراً لتجارة السموم العابرة للحدود.
وقبل أيام أعلن جهاز "الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة"، توقيف أحد أكبر تجار المخدرات في شمال أفريقيا المسؤول عن مسارات تهريبها، ما مثل ضربة قوية لتجارة السموم في المنطقة.
عبد الرحيم الفيتوري
وأوضح الجهاز التابع لحكومة "الوحدة الوطنية" في بيان أنه تم إيداع تاجر المخدرات عبد الرحيم الفيتوري، المعروف باسم "إسكوبار الليبي"، المحكوم غيابياً بالسجن لمدة 15 عاماً إلى "مؤسسة الإصلاح والتأهيل" في طرابلس تنفيذاً لتعليمات النائب العام. وحُكم على الفيتوري غيابياً بالسجن لمدة 15 سنة وتغريمه 5 آلاف دينار، وبمصادرة المخدرات المضبوطة ونشر ملخص الحكم مرتين متتاليتين في الصحف الرسمية.
ويشار إلى الفيتوري باعتباره تاجر مخدرات نافذاً في أفريقيا، وتنقل خلال السنوات الماضية بين دول عدة، بفضل تمتعه بنفوذ واسع، ما ساعده على تسهيل عمليات عديدة لتهريب المخدرات.
وثمة عوامل متشابكة تُساهم في تفشي المخدرات في ليبيا، وتزيد من تعقيدات مكافحتها، وفقاً لمسؤول أمني في شرق البلاد، أقر بأن بلاده "انتقلت من كونها معبراً للتجارة العابرة للحدود إلى مركز للتصنيع والتصدير".
استغلال الانقسام السياسي
وأوضح المسؤول الأمني لـ"النهار العربي" أن "الصراع السياسي والانقسام وانعكاسهما على هشاشة الوضع الأمني، مشاكل استغلتها عصابات المخدرات"، مشيراً إلى أن "معظم القضايا التي ضُبطت هي لعصابات محلية، ضمن شبكات دولية، حاولت إنتاج المخدرات محلياً، سواء عبر زراعة موادها الأولية أو تصنيعها"، ومنبّهاً أيضاً إلى أن الصراع بين الحكومتين في الشرق والغرب "يُعطل إبرام عدد من الاتفاقات الدولية وتفعيل التنسيق الدولي وتبادل المعلومات في هذا المجال".
ولفت المسؤول إلى "تأثر الجنوب الليبي بالأوضاع التي تعانيها الدول الحدودية الجنوبية، خصوصاً السودان والنيجر، والتي عززت من نشاط عصابات التهريب، سواء البشر أم المخدرات"، مؤكداً أن "أجهزة الأمن عززت وجودها على الشريط الحدودي الجنوبي ونشطت دورياتها هناك والمكامن الشرطية على الطرق الرئيسية لكن الجهود المحلية غير كافية".
تكثيف الضربات الأمنية
وإذ أكد المسؤول أن نشاط تجارة المخدرات في المدن الليبية "يشهد انخفاضاً في الأشهر الأخيرة عن السنوات الثلاث الماضية، في ظل تكثيف أجهزة الأمن ضرباتها ضد تلك العصابات وحصار حركتها"، اشتكى من "صعوبات تواجه عمل الأجهزة الأمنية في ظل غلبة التضاريس الصحرواية على خريطة ليبيا وامتداد الحدود إلى آلاف الكيلومترات مع دول الجوار"، مؤكداً "تنسيق أجهزة الأمن الليبية مع نظرائها في الإقليم لتضييق الخناق على شبكات تهريب المخدرات وتفكيكها".
وطالب المسؤول بـ"حملة محلية واسعة لمكافحة تعاطي المخدرات يشارك فيها كل المختصين والأجهزة المجتمعية، فالمكافحة يجب ألا تقتصر على دور الأجهزة الأمن فقط"، محذراً من تنامي مستويات تعاطي المخدرات بين أوساط الشباب بل والنساء، خصوصاً الأقراص المخدرة التي تأتي في صدارة التداول، ومن بعدها مخدر الحشيش.
وكشف تقرير حديث لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة عن مسارات وصول مخدرات الكوكايين والترامادول والقنب الهندي إلى ليبيا، متسللة من الحدود البرية مع النيجر وتشاد في طريقها إلى وجهتها الأوروبية عبر ليبيا.
التقرير الأممي الذي حمل عنوان "الإتجار بالمخدرات في منطقة الساحل: الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية – تقييم التهديد"، أشار إلى أنه بناءً على البيانات الواردة من دول الساحل، يأتي القنب الذي يجري الإتجار به في المنطقة عموماً من المغرب في المقدمة، إذ جرى الإبلاغ عن زيادة في الإنتاج، وصلت إلى نحو 901 طن في عام 2022. ويتجه عموماً إلى دول غرب أوروبا وجنوبها.
وبعيداً عن الطريق المباشر بين إسبانيا والمغرب، يُنقل القنب بشكل رئيسي عن طريق البر من المغرب إلى موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، ثم إلى ليبيا والجزائر. وأشار إلى أنه في سياق زيادة إنتاج الكوكايين في جنوب أميركا، فإن معظم الكمية التي تصل إلى غرب أفريقيا يجري تهريبها عادة شمالاً نحو شمال أفريقيا وأوروبا عبر الطرق البحرية.
مع ذلك، تشير البيانات المتعلقة بالمضبوطات في بوركينا فاسو ومالي والنيجر أو المتجهة إليها، إلى أن مخدر الكوكايين لا يزال يُهرب عبر الطرق البرية عبر حدود الساحل باتجاه ليبيا، لتتحول الشحنات في طريقها إلى أسواق الوجهة النهائية، ومعظمها في أوروبا.
وكشفت البيانات الأممية التي تعود إلى مطلع عام 2022 عن ضبط 215 كلغ من الكوكايين في السيارة الرسمية لرئيس بلدية فاتشي البلدة النائية شمال شرقي أغاديز النيجر، في طريقها من مالي إلى ليبيا. وحذرت من أن غرب أفريقيا يقع في قلب دوائر الكوكايين الجديدة، فموقعه الجغرافي يجعله محطة توقف طبيعية لهذا المخدر الذي يُنتج في أميركا الجنوبية، في طريقه إلى أوروبا أكبر أسواق استهلاكه بعد أميركا الشمالية.
وفي سياق زيادة الإنتاج في أميركا الجنوبية والطلب المتزايد في أوروبا، تكثفت تدفقات الكوكايين التي تمر عبر غرب أفريقيا، وتشير عودة ظهور مضبوطات كبيرة من الكوكايين منذ عام 2019 إلى زيادة في شحنات المخدرات الكبيرة إلى بلدان غرب أفريقيا الساحلية، وفق ما يقول التقرير الأممي.
كما أظهرت المنظمة أن المخدرات المصنعة في المغرب، عبرت موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو قبل أن تصل إلى النيجر، حيث كانت جزءاً من شحنة أكبر تبلغ عشرة أطنان موجهة إلى ليبيا.
وفي كانون الثاني (يناير) 2020، صادرت سلطات الجمارك التشادية شحنة تحتوي على 246 كرتونة (حوالي 47 كلغم) من مادة الترامادول وكانت في طريقها من الهند إلى ليبيا عبر الكاميرون.
وكشف مكتب مكافحة المخدرات عن استخدام شركات الوقود لتمويه أنشطة التهريب، إذ تم ضبط كميات من المخدرات في صهريج وقود. ووفقاً لأحد ضباط إنفاذ القانون في النيجر، كان الحشيش يخبأ في مقصورات منفصلة في صهاريج الوقود ويننقل من داخل النيجر، نحو ليبيا في شاحنات صغيرة.
وحذر من أن مصادر تمويل الجماعات المتطرفة هي موضوع شائك في منطقة الساحل، حيث تسهم الجريمة المنظمة والإتجار بالمخدرات في تقويض الاستقرار والتنمية، مؤكداً أن تهريب المخدرات يوفر موارد مالية للجماعات المسلحة العاملة في منطقة الساحل.
الخبير القانوني الليبي رمضان تويجري طالب بـ"ثورة" على القوانين الليبية التي صدرت في خمسينات القرن الماضي، حتى تواكب الطرق الحديثة للجريمة وارتباطها بشبكات دولية، مشيراً لـ"النهار العربي" إلى أن التعديلات التشريعية التي تحتاجها ليبيا "يجب ألا تكتفي فقط بتشديد عقوبات تجارة المخدرات وتعاطيها حتى تكون رادعة للمجتمع، ولكن أيضاً لا بد أولاً من تصنيف المجرمين بحسب درجة الجُرم، وكذلك عدم إغفال معالجة مسألة إعادة تأهيل مرتكبي جريمة الإتجار أو التعاطي حتى يسهل انخراطه في المجتمع مجدداَ بعد قضاء العقوبة".
واتفق تويجري مع المسؤول الأمني الليبي كون مكافحة انتشار المخدرات في ليبيا "تحتاج إلى منظومة متكاملة، وتنسيق وتعاون بين الجهات التشريعية والأمنية والمجتمعية، غير أن الانقسام الذي تعانيه ليبيا يقوض هذا التعاون".